رحيل الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس.. “زوربا العاشق للحياة والفن يشبهني كثيراً.. بل هو أنا”
كتبت فاطمة حوحو
//خاص المدارنت//*... من منّا لم يستمع إلى الموسيقى اليونانية الشهيرة “زوربا”، التي انطلقت في فيلم يحمل العنوان نفسه، من بطولة الممثل العالمي الكبير أنطوني كوين؟ من منّا لم يتأثر بعالم الرواية الفلسفية الخالدة التي كتبها “نيكوس كازانتزاكي”.. وفيها من روح التمرّد الكثير، ومن كشف للزائف داخل السلطة وفي نفوس الناس، وفيها من عوامل الحب والشفافية والمتعة أيضا الكثير الكثير؟
مناسبة الكلام، ليس الحديث عن الرواية ولا عن الفيلم الرائع، بل عن واضع موسيقى الفيلم التي رقص على أنغامها شباب العالم وشيبه، من أقصاه إلى أقصاه، إنه الموسيقار اليوناني “ميكيس ثيودوراكيس”، الذي غادر العالم في 3 من الشهر الجاري، تاركاً ثروة موسيقية هائلة، وسمعة مناضل شرس ضدّ الديكتاتورية في اليونان، وصديق في كل آن وزمان لشعب فلسطين، ومؤيد لدولته، التي وضَع لها نشيدها الوطني في العام 2012.
إنه ببساطة، الإنسان الذي جمع بين عالمين، عالم الإبداع والتأليف الموسيقي بعبقرية هائلة، وعالم السياسة، التي كانت تعني له السلام والعدالة والحرية، ولذلك، فإن حياته أشبه بقصة إغريقية في دراميتها وخيوطها، التي تصلح لأن تكون إحدى الروايات الخالدة.
“ثيودوراكيس”، اسم كبير في عالم المبدعين الشيوعيين، الذين تركوا أثرهم في دنيا النضال من أجل مبادئ وقضايا إنسانية شغلت المجتمعات، اسم لا تقل شهرته عن “بابلو نيرودا” في الشعر، ولا عن “بيكاسو” في الرسم، ولا عن “غابرييل غارسيا ماركيز” في الأدب، إنه واحد من أكبر موسيقيي القرن العشرين من دون منازع.
أحيا حفلات له في أكثر من دولة عربية، منها تونس ولبنان ومصر، وطبعا في دول العالم، لا سيّما الدول الأوروبية منها.
سيرة فنان مكافح
في جزيرة مطلة على بحر إيجة، تدعى “خيوس”، في 29 يوليوز 1925 ولد “ثيودوراكيس”، من أب كريتي وأم أسيوية.
وضع أول ألحانه، وهو في الثانية عشرة من عمره، فقد كان مهووساً بالموسيقى، وكانت رغبته جامحة في تعلم أصولها، لكن الأحداث التاريخية التي عاشتها بلاده اليونان، كانت تبعده في اتجاه آخر، هو النضال الاجتماعي والسياسي ضد الديكتاتوريات على أنواعها، بدءَا من ديكتاتورية الاستعمار الثلاثي الألماني ــــ الإيطالي ـــ البلغاري الذي تعرضت له اليونان، إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، وانتهاء بديكتاتورية الجنرالات العسكرية الانقلابية، ما بين سنتي 1967 و1974، مرورا بمآسي الحرب الاهلية وفظاعاتها ما بين 1941 و1944، حيث كان “ثيودوراكيس” في قلب هذه المحطات، وجهاً لوجه أمام الموت.
لكنه، كان في المقابل، عنيداً ومصراً على الحياة، فقد تم اعتقاله في العام 1942، وجرى تعذيبه بتهمة المشاركة في المقاومة الشعبية للاستعمار، ثم أطلق سراحه، في العام 1946 جرى تعذيبه بعد توقيفه في تظاهرة ضد القوى اليمينية في السلطة، وظنّ الجميع أنه فارق الحياة، حيث وضع في غرفة الأموات في المستشفى، لكنه أفاق في المشرحة.
على فترات طويلة، كان يلجأ إلى العمل السرّي، ويتوارى عن الأنظار، يتسلل خفية إلى معهد الموسيقى ليتابع دروسه ونضاله الذي لا يتوقف، إذ أنه بعد سنتين على تلك الحادثة، اعتقل من جديد وتمّ دفنه مرتين، لكنه نجا من الموت، وقد أجبرت السلطة على إطلاق سراحه لاحقا.
وفي سنة 1953 تزوج “ميكيس” من “ميرت وألتينجلو”، وحصل في السنة التي بعدها على منحة للدراسة في باريس.
صحيح أن “ثيودوراكيس” عاش حياته في المعتقلات والسجون، وكرّس عمراً من أجل النضال السياسي، ومع ذلك، نجح في التأليف الموسيقي، إلى أن ذاع اسمه في العالم كأشهر موسيقار يوناني. وقد يقول قائل أن الموهبة لا تكفي وحدها للإبداع الموسيقي، وهذا صحيح، لكن الواضح أن “ثيودوراكيس”، استطاع التوفيق بين نوازعه الفنية والتزاماته السياسية والإيديولوجية.
فطيلة الفترات التي كان يلجأ فيها إلى العمل السرّي متوارياً عن الأنظار، كان يتسلّل خفية إلى معهد الموسيقى في أثينا لتلقى دروسه، إلى أن توّج تكوينه الأكاديمي بالحصول على شهادة جامعية في التناغم (1950)، قبل أن ينتقل إلى باريس ليتخصص في مجال فنون إدارة “الأوركسترا”، وأصول التحليل الموسيقي (1954). وهذا ماسمح له بتنويع إنتاجه الذي تراوح بين المعزوفات على البيانو و”السمفونيات والباليه”، وهو إنتاج حَظِيَ باعتراف عالمي، من خلال حصوله على الميدالية الذهبية في مهرجان موسكو للموسيقي (1957)، ووضعه الموسيقى التصويرية لشريط “كمين الليل”، للمخرجين البريطانيين “مايكل بأول وامريك بريسبرغر”(1957).
وعلى الرغم من أهمية هذا التتويج العالمي، والقيمة الرمزية للانفتاح على الأعمال السينمائية الغربية، فإن المنعطف الحقيقي في مسيرته الإبداعية برز في فترة الستينيات، وتميز بعودته إلى الأصول الموسيقية اليونانية، وتشبعه بالجذور العميقة للثقافة الشعبية. وقد كان مدخله إلى ذلك اتصاله بالشاعر اليوناني “يانيس رتسوس” (1909-1990) وتلحينه عددا من قصائده، بالإضافة إلى صياغته موسيقى الفيلم الشهير “زوربا اليوناني” (1964)، الذي يُعد بحق علامة فارقة على ثقافة يونانية جديدة متحولة، لأنه لم يتح – فقط – ظهور اسم الموسيقار “ثيودوراكيس”، بل حمل معه إلى العالمية أسماء الأديب “نيكوس كازنزاكيس” والمخرج “ميخائيل كاكويانيس” والممثلة والمغنية “إيرين باباس”.
في ايار 1963، أفاقت اليونان على نبأ اغتيال أحد زعمائها الثوريين، الطبيب “غريغوري سلامبراكيس” (1912-1963)، في واقعة دوّنت في سجلات البوليس، على أنها حادث سير عادية. وقد كانت هذه الحادثة سببا في عودة “ثيودوراكيس” إلى السياسة مرّة أخرى، من خلال تأسيسه حركة “الشبيبة الديموقراطية لامبراكيس”، وهي حركة سرعان ما شهدت انخراط أكثر من خمسين ألف شخص، ونجحت في تأسيس نحو مئتي مركز ثقافي على امتداد أرجاء اليونان. والأهم من هذ او ذاك، أنها كانت سببا في إنتاج فيلم سينمائي مستوحى من الحادثة، بتمويل جزائري ـــ فرنسي يحمل عنوان: Z))، وأخرجه اليوناني “كوستاغافراس”، شارك في أداء أدوار البطولة فيه الممثل الفرنسي الشهير “إيف مونتون” واليونانية “إيرين باباس”.
وزّع موسيقى النشيد الوطني الفلسطيني
ومن خلال هذا الشريط، يؤكد “ثيودوراكيس” مرة أخرى أن الموسيقى التصويرية ليست زينة خارجية تضاف إلى الأشرطة السينمائية، بل هي روح الفيلم وجوهرها الذي ينطق بما لا ينطق به الممثلون. في تلك الفترة، أصبح ثيودوراكيس مزعجا حقا للسلطة، فتم اعتقاله ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ولكن موجة التضامن العالمي معه أجبرت السلطات اليونانية على نفيه خارج البلاد، وليتها لم تفعل، فقد كانت إقامة “ثيودوراكيس” في منفاه الباريسي مناسبة للتشهير بالنظام القائم في بلاده، وفرصة أتاحت له التعرّف على رموز ثقافية وسياسية شهيرة ومؤثرة، مثل الشاعر “بابلو نيرودا” والثائر “سلفادور الليندي” والرئيس جمال عبد الناصر و”الماريشال تيتو” والقائد ياسر عرفات. وهذا ماجعل منه رمزا من رموز الحرية في العالم، وصوتا لمن لا صوت لهم، حتى إنه لم يتردد في الوقوف على المسارح مرتديا الكوفية الفلسطينية، ومناصرا القضايا العربية. وهو صاحب التوزيع الموسيقي للنشيد الوطني الفلسطيني.
عاد “ثيوراكيس” إلى اليونان في 24 يوليوز 1974، وأصبح محلّ نقد اليسار اليوناني، وذلك لدعمه “كونستنتين كرمناليس”، ومساندته لتحوّل بطيء وتدريجي إلى الديموقراطية، وذلك لخوفه من عودة النظام الاستبدادي الى بلاده، عن طريق انقلاب جديد. لكنه في العام 1980 عاد إلى “باريس”، وقام بإعادة كتابة قطع موسيقية كتبها في الخمسينات. وبعد سنة 1981 عاد لينتخب عضوا في “البرلمان” اليوناني، وتخلى عن منصبه سنة 1986 ليتفرغ كليا إلى الموسيقى. في سنة 1987 كتب أول أوبرا له، وهي،KostasKaryotakis وقام بتأسيس فرقة “باليه” سماها “زوربا”، والتي أدت أكثر من 600 عرض حول العالم. في سنة 1989 دعا إلى ائتلاف مكون من اليسار اليوناني والحزب الشيوعي، لوضع حد لفضائح الحكومة اليمينية. بعد انتخابات مايو 1990 دخل إلى الحكومة كوزير من دون حقيبة، وناضل ضد المخدرات ومن أجل التعليم، كما عمل مع الموسيقي التركي “زولف ولفنالي” من أجل التصالح بين الشعبين اليوناني والتركي. وفي أبريل 1992 غادر الحكومة ليصبح مديرا عاما “للكورال والأوركسترا السمفونية” في التلفزيون. وتوقف “ميكيس” عن العمل إثر وفاة أخيه، لمعاناته من مشكلات في التنفس. وقرر أيضا التخلي عن الوثائق التي كان يمتلكها لصالح مكتبة “ليليان فودوري”، في 14 مارس حصل على وسام ضابط في مرتبة كتيبة الشرف من قبل السفير الفرنسي في اليونان، وذلك في حفل أقيم على شرفه في السفارة الفرنسية في اليونان.
في سنة 1991 قام بتأسيس “أوبرا ميديا (Medea) “في “بلباو”. وفي 5 أكتوبر من سنة 1992، قام بطلب من “خوان انتونيو سامرانش” رئيس اللجنة الأولمبية الدولية بكتابة Canto Olympico من أجلا لألعاب الأولمبية لسنة 1992 والتي أقيمت في برشلونة. وحصل على دكتوراه فخرية من جامعة “مونريال سالونيكوكريت”. وبمناسبة عيد ميلاده الثمانين حصل على جائزة “سانتاندريه” من قبل مؤسسة “سانتاندريه” لشجاعته والتزامه من أجل وطنه، وأيضا من أجل مؤلفاته الرائعة التي تغني لأجل السلام بين الشعوب”.
المناهض للكيان الصهيوني
كما حاز “ثيودورراكيس” على جائزة اليونيسكو «الموسيقي الدولي لعام 2005»، حيث اختير من بين 40 مرشحا آخرا من أشهر الموسيقيين الدوليين. عارض الحرب على العراق ووجه انتقادات لاذعة لحكومته التي ساندت الحرب، والى الرئيس الأميركي آنذاك “جورج دبليو بوش”. وقال في إسرائيل “إنها أمة صغيرة، هي أساس السوء في العالم”، وفي مرة أخرى قال: “اليونانيون لا يدركون بعد ماهي خطورة وأبعاد المفاهيم اليهودية المتعصبة، وما ينجم عنها من سياسة عنف وبطش وهمجية. فنحن أمة عريقة لها جذور عميقة في التاريخ البشري، بينما هم يسيرون على نهج لا يخرجون منه أو يتخيلون غيره”. وصدمت هذه التصريحات إسرائيل وحكومتها، ووجهت له اتهامات بالتحريض على معاداة السامية. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بسبب تلك التصريحات في الشهر نفسه، قال:”… أتخوف من قيادة شارون لليهود بنفس الأسلوب الذي فعله هتلر للألمان. هذه هي جذور الشرّ (..) لقد أصبحت إسرائيل كدولة عظمى لديها سلاح نووي وقوية جداً إنها مثل اسبارطة، ومن تحاربون؟ مليون من النساء والأطفال الفلسطينيين، أنتم الآن “جوليات” وفلسطين هي “دافيد”، وأنا مع “دافيد”.
*كُتب النصّ لمناسبة رحيل “ثيودوراكيس” أمس.