زيلينسكي وأوكرانيا.. حسابات خاطئة أدت إلى الكارثة!
“المدارنت”..
وقع الفأس في الرأس، قد تكون المقولة المناسبة لوصف الوضع الحالي لكل أوروبا، خاصة أوكرانيا، بعد قرار البيت الأبيض بحث السلام، وإنهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية، من دون أوروبيين ودور هامشي لكييف. إن هذه الحرب تبرز كم كانت أوكرانيا ساذجة في اختياراتها الاستراتيجية، وكم كان جزء من الإعلام الدولي والعربي فاقدا للرؤية العميقة.
عدد من الدول تعتقد اعتقادا أعمى في قدرة الغرب على مساعدتها في الحروب وباقي الأزمات، وتعمل على التخلي عن سيادتها لتجد نفسها في آخر المطاف وقد خسرت كل شيء، بسبب الحسابات الخاطئة والاعتماد على الآخر. إن خسائر أوكرانيا في هذه الحرب التي ستكمل سنتها الثالثة، في ظرف أيام قليلة، تعتبر جسيمة وفادحة وخطيرة، بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى.
ويمكن حصر الخسائر في: هجرة قرابة خمسة ملايين أوكراني الى الخارج، ما يشكل استنزافا بشريا كبيرا للأمة الأوكرانية، لأن فقدان خمسة ملايين من أصل 40 مليون ليس سهلا. في الوقت ذاته، تراجع الإنتاج القومي الخام للبلاد بأكثر من الثلث، ولكي تستعيده سيتطلب الأمر عشر سنوات على الأقل. وفقدت أوكرانيا 20% من مساحتها بعدما سيطرت روسيا على شرق البلاد إقليم دونباس، وتنضاف هذه المساحة الى شبه جزيرة القرم، التي سقطت تحت سيطرة موسكو سنة 2014، ودخلت الحرب لاستعادة أراضيها وها هي تفقدها.
ويبقى الأفظع، هو اقتراب نهاية الحرب في وقت ستحتاج فيه البلاد الى مئات المليارات من الدولارات لإعادة الأعمار، وتنتهي من دون انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي واستبعاد كلي لانضمامها الى منظمة شمال الحلف الأطلسي. وها هو البيت الأبيض علانية وبعض الدول الأوروبية باحتشام شديد، يريدون إقناع كييف بأن السلام يمر حتما عبر التخلي عن شرق أوكرانيا. لقد سقطت أوكرانيا في أخطاء كثيرة أدت بها الى وضع اقتصادي واجتماعي وعسكري يشبه الخسائر التي عانت منها البلاد في الحرب العالمية الثانية. ويعود هذا الى العوامل التالية:
– افتقاد القيادة الأوكرانية للرؤية العميقة لمصالح البلد، إذ أن رئيسا من طينة فلولوديمير زيلينسكي وأفراد فريقه، من دون ثقافة دولية واسعة سقطوا ضحية مخططات غربية، سعت الى حرب لاستنزاف روسيا. لم تدرك كييف أنها لم تكن سوى دمية جيوسياسية لخدمة مصالح الآخرين، لاسيما بعدما عرقلت تنفيذ اتفاقيات مينسك، التي وقعت عليها موسكو وكييف بإشراف ومشاركة من باريس وبرلين. ومن أغرب التصريحات تلك التي صدرت عن المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل لجريدة «تسايت»، ديسمبر 2022 بأن اتفاقيات مينسك سنة 2014 كانت لربح الوقت وإعداد أوكرانيا لهجوم روسي، وأكد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند هذه المعطيات.
– لم تدرك القيادة الأوكرانية مدى خوف روسيا التاريخي من حدودها الغربية، إذ أن لديها فوبيا حقيقية بحكم أن المخاطر الكبرى التي كادت تنهي الأمة الروسية جاءت من الغرب، في عهد نابوليون بونابرت خلال بداية القرن التاسع عشر، ثم محاولة ألمانيا النازية غزو الاتحاد السوفييتي والقضاء عليه في الحرب العالمية الثانية، حيث فقد الاتحاد السوفييتي قرابة 20 مليون شخص. والآن، يريد الحلف الأطلسي نشر صواريخه في أوكرانيا على مشارف الحدود الروسية، ليكون بمثابة سيف ديموقليس على رأس روسيا. وكانت هذه السياسة سببا في الاعتداء الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022.
– لم تدرك القيادة الأوكرانية أنه لا يكمن هزيمة دولة نووية في حرب تقع على حدودها مباشرة، وتعتبرها دفاعا عن أمنها القومي وليس حربا تقع على مسافة بعيدة من حدودها. كما لم تأخذ بعين الاعتبار بعض الأصوات من الغرب التي كانت تحذّر من الجيش الروسي، ووضعت كييف ثقتها في التقارير الغربية بأن القوات الروسية ما هي إلا نمر من ورق. ومن ضمن هذه التقارير ضعف السلاح الروسي، ثم فرضية لجوء موسكو إلى السلاح النووي. كان يتم ترديد هذه الروايات في جزء كبير من الإعلام الغربي وينقله العربي في وقت كانت تتقدم فيه القوات الروسية ميدانيا، وتضم أراضي أكثر وأكثر. لينتهي المطاف بمارك روت الأمين العام للحلف الأطلسي، إلى الاعتراف الأسبوع الماضي، بأن روسيا تنتج في ثلاثة أشهر ما ينتجه الغرب من ذخيرة طيلة سنة، وهو اعتراف جاء متأخرا بعدم القدرة على مسايرة الحرب.
تغاضى الإعلام عن تحذير رئيس الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي يوم 27 يناير 2023 (تقاعد السنة الماضية) بالقول إنه لا يمكن هزم روسيا عسكريا، ورغم ذلك استمر الغرب في التضحية بأوكرانيا، واستمرت قيادة هذه البلاد تنغمس في الحرب للحصول على رضى الغرب على حساب شعبها.
– فقدت كييف المبادرة والسيادة بعدما رضخت للضغط الأنكلوسكسوني الذي قاده رئيس حكومة لندن بوريس جونسون سنة 2022 عندما كادت تركيا إقناع الطرفين، روسيا وأوكرانيا، التوقيع على اتفاقية سلام تنهي الحرب، إلا أن زيلينسكي وقيادته اللذين يبهرهما الغرب، فضلا استمرار الحرب.
لم تدرك أوكرانيا أن الغرب يبحث عن استنزاف روسيا ولا يأبه بالشعب الأوكراني، وأن هذا الغرب لن يمنح لتركيا شرف إنهاء حرب، حتى لا تزيد من نفوذها الدولي، في وقت يريد هذا الغرب تقليم أظافر أنقرة لأنها أصبحت منافسا في البحر المتوسط والشرق الأوسط والقارة الافريقية.
– ولعل الخطأ الفادح لكييف بأنها لم تراهن على الحل السلمي لنزاع إقليم دونباس بمنح الساكنة ذات الجذور الروسية الحكم الذاتي، للسيطرة على الوضع ومنعه من الانزلاق إلى حرب أهلية شرق البلاد لتتحول إلى حرب بين روسيا وأوكرانيا ووراءها الغرب.
والآن، على ضوء الموقف الأمريكي واستمرار الحرب ونتائجها الكارثية أصبح عدد من الأوكرانيين في شبكات التواصل الاجتماعي يتساءلون بكل جرأة، لماذا خضنا هذه الحرب المدمرة. كان هذا التساؤل في البدء يشكل خيانة للوطن، وكم من أوكراني جرت محاكمته لهذا السبب، أما الآن، أصبح هذا التساؤل يعكس غيرة وطنية حقيقية على البلاد. لا يمكن فهم استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية من دون إفشال الغرب لاتفاقية تركيا والتقليل من قوة السلاح الروسي.
في غضون ذلك، أسوأ ما تقع فيه الأمم من أخطاء كارثية سياسيا هو عندما تصبح قيادتها السياسية المتربعة على هرم السلطة أداة في مخططات طرف ثالث على حساب وحدة البلاد ومصالح الشعب. وتعتبر أوكرانيا النموذج الحي لهذه الاستراتيجية الكارثية.