تربية وثقافة

ساعات في المعتقل..!

عبد الناصر طه/ فنزويلا

خاص “المدارنت”..

‎ترجل من سيارة الأجرة على مقربة من بيته، وإذ برجل أمن يسأله: أنت مفيد زين الدين، فأومأ برأسه قائلا: أجل، ليجد نفسه مرميًا في سيارة عسكرية، والشتائم تنهال عليه يمنة ويسرة، دون أن يستطيع أن ينبس ببنت شفة. وكلما حاول فتح فمه ليسأل عن سبب اعتقاله، يأتيه الضرب على جسده من كل حدب وصوب، إلى أن أحسّ بالدم الساخن يجري من أنفه وفمه، وشعر بتحطم بعض أسنانه؛ وكل ذلك لم ينهه عن محاول السؤال مرّة تلو أخرى. لكنهم وضعوا على فمه شريطًا لاصقًا منعه من الكلام، وهددوه بوضع شريط آخر على أنفه إذا لم يلتزم الهدوء.

‎دخلت السيارة العسكرية إلى الثكنة، فنزعوا الشريط عن فمه، وقذفوه إلى داخل السجن، في قاووش يتسع لعشرة أشخاص، حشروا فيه اكثر من خمسين موقوفا، وكانت تنبعث من جوانبه روائح البول الكريهة، ويرى الناظر آثار الدماء على أرضه وعلى حيطانه، والسجناء فوق بعضهم من شدة الاكتظاظ؛ آنذاك، كان يفكر في أسباب توقيفه واعتقاله، محاولا سماع أجوبة من أحدهم تشفي غليله، ليكتشف ان القاووش يحتوي على موقوفين بتهم مختلفة ومتنوعة، فهذا متهم بارتكاب جريمة قتل، وذاك متهم بتجارة سلاح ومخدرات، وآخر بتهم خطف وتشكيل عصابة مسلحة، حتى استطاع الوصول إلى ما ابتغاه.

حين علم أن المتهمين بجريمة اليوم، الذين يتعرضون لأبشع صنوف التعذيب، متهمون بمحاولة إغتيال وزير الداخلية، في سيارة مفخخة كانت مركونة على زاوية الطريق المؤدي إلى الوزارة.
‏تناوبت عليه موجات التفكير، ترتفع تارة وتهبط طورًا، وزادت نبضات قلبه، فوالدته مريضة، وزوجته وولداه في انتظاره كعادتهم، وهو معزول عن العالم الخارجي. أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة الوطنية، تجاوز الأربعين قليلًا، يمارس رياضة المشي، ولا يحب السياسة، ولا يعنيه من أخبارها غير قضية فلسطين، التي رباه والداه على حبها؛ سيطرت عليه فكرة واحدة مخيفة، وهي سبب اعتقاله المجهول، لأن كثيرًا من الأبرياء االذين اعتقلوا اختفت آثارهم ولم يعد أحد منهم إلى منزله.

‏بعد ساعتين، نادى شرطي على باب القاووش: الموقوف مفيد زين الدين، تعال إلى التحقيق.
وإذ بالعديد من الموقوفين يهرعون باتجاه الباب، ليشير إليه الشرطي انه هو المقصود، ويقوده إلى مكتب المحقق القريب، بالركلِ حينًا وبالضرب حينًا آخر، ثم يدخله إلى غرفة خافتة الضوء، لا يستطيع المرء أن يرى فيها سوى الأشياء المتحركة.

بعد أسئلة عامة شخصية في معظمها، سأله المحقق عن دوره في تفجير السيارة، وعن علاقته بالمنظمة التي حاولت اغتيال وزير الداخلية، فاستهجن ما سمع، وأجاب بحدّة: أنا لا أهوى السياسة، ولا أعرف كيف يستعمل السلاح، كما أنني شخص معروف في الوسط الأكاديمي، وعليكم احترامي. فينتفض المحقق في وجه، ويهدده بالويل والثبور وعظائم الامور، ويوجه إليه الإهانات تلو الأخرى، ثم يتعمد إخافته، حين يخبره بموت اثنين من زملائه الموقوفين تحت التعذيب قبل ساعة من وصوله.

ليردّ مفيد زين الدين بهدوء، بلهجة في باطنها سخرية لما سمعه من تهديد: أودّ أن الفت انتباهك أيها المحقق، أنني ابن شقيقة قائد الفرقة الخاصة في جهاز الأمن الرئاسي، اللواء الركن ناظم حسن، وتستطيع أن تتحقق من ذلك بنفسك.

‏فجأة، أضيئت الغرفة بشكل كامل، وانتفض المحقق كأنما أصابته صاعقة، وبدأ يلتفت يمينا ويسارا وهو يرتجف، صارخا في وجه مفيد: هل ما تقوله صحيح؟ ولماذا لم تخبر الدورية التي اعتقلتك بالموضوع؟ وانتابته موجة طويلة من الهذيان!

غلبت الهواجس على العائلة، بعد تأخر الدكتور مفيد عن موعد وصوله، فتوالت الإتصالات على هاتفه المُصادر دون إجابة؛ الزوجة والأبناء يتوزعون الأدوار، فابنه يتصل بالشرطة، وابنته تتصل بالمستشفيات، أما زوجته، كان دورها الاتصال باللواء الركن الذي كان في اجتماع خاص؛وجميعم يتجنب إخبار والدته المريضة بما حصل، بعد أن أخبروها أنه في اجتماع أكاديمي قد يطول؛ وما هي الا دقائق، حتى رنّ هاتف الوالدة في اتصال من اللواء الركن، فأخبرته عن تأخر الدكتور غير المبرّر، والقلق الذي يسيطر على العائلة، فنصحهم بالهدوء وعدم إعلام شقيقته بالامر.

أربع ساعات مضت على الاعتقال، والتحقيق توقف، فالدنيا انقلبت بحثا عن الدكتور مفيد؛ حينها كان المحقق، يبحث عن فكرة ينقذ نفسه من خلالها، لان مجرد سماع اسم اللواء الركن ناظم، يدب الرعب في قلوب رجال الأمن؛ وبين شك ويقين، قرر التأكد من هوية المتهم الجالس أمامه على الكرسي، فاخبر رئيس فرعه الذي أصابه الهلع عند سماع رواية مرؤسه، فاستدعى ضابطين لمساعدته، وطلب منهما الاتصال بمعارف او زملاء لهما يعملون مع اللواء، لإظهار الحقيقة بأقصى سرعة ممكنة.

ولكن! جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، حركة غير اعتيادية في الثكنة العسكرية، واستنفار شعر به الجميع، كما لو حصلت هزة أرضية، وإذ بطارق على باب رئيس فرع التحقيق، وصوت هادر: يا عقيد ! يا … أين هؤلاء الحيوانات، ‏هم لا يميزون بين مجرم وبريء؛ هناك، وقف الجميع احتراما يؤدون التحية العسكرية، وبأصوات متكسرة الألفاظ: إحترامي سيّدي. إنه اللواء الركن.

‏- أحضروا لي المحقق، أحضروا الدورية التي اعتقلت ابن أختي، سأدعس رقابكم جميعا، ماذا فعلتم يا بلطجية، يا طرش، يا حيوانات! وما هي سوى دقائق، حتى جيء بالمطلوبين مُقيّدي الأيدي، يبكون من الخوف، وجيء بالدكتور في سيارة أخرى؛ فوقف اللواء الركن أمام الجميع غاضبا، خذوا هؤلاء الكلاب إلى السجن، وغدا سيكون حسابكم.

‏بعدما زجرهم وقرّعهم، نادى بأعلى صوته: يا رئيس الفرع. ما هو السبب الذي جعلكم تعتقلون هذا الإنسان المسالم البريء.

أجابه بتلعثم: سألناهم… سيدي، فقالوا: تشابه أسماء…سيدي!

=======================
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى