سقوط أميركا في فخّ “الأيديولوجيا”!
“المدارنت”..
تداولت مواقع الأخبار استطلاعاً للرأي، أجرته مجلة نيوزويك الأميركية، بالتعاون مع مؤسّسة كولدج بالس في مايو/ أيار الحالي، أظهر أنّ 80% من طلاب الجامعات الأميركية لا يوافقون على طريقة تعامل “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) مع الحرب ضدّ حركة حماس في غزّة، وأنّ 27% من المشاركين “يلومون “إسرائيل” على الحرب في غزّة”، في مقابل 20% يلومون “حماس”، وأعرب 39% من المشاركين تأييدهم الفلسطينيين، مقابل 11% يقفون في جانب “إسرائيل”، في حين أجاب 40% بـ”لا” عما إذا كان يقف في جانب “إسرائيل”.
بالتأكيد، من غير المنطقي أن نعتمد استطلاعاً للرأي، هنا أو هناك، للاحتفاء به دليلاً على ما قد يراه بعضهم انقلاباً جذرياً في موقف الرأي العام الأميركي من القضية الفلسطينية، لكنّه يعطي، على الأقلّ، مُؤشّراً لكي نتساءل إن كان هذا الحراك يدلّ على تحوّل جوهري في الشخصية الاجتماعية والثقافية الأميركية تجاه “إسرائيل”، التي يَنظر إليها صانع السياسات الخارجية في البيت الأبيض على أنّها قُدس الأقداس، والخطّ الأحمر الذي لا يُسمح لأحد، أياً يكن، حتّى بالاقتراب منه.
كما يعطينا الدافع لنسأل: هل يمكن أن ننطلق من هذا المُؤشّر للقول إنّ الولايات المتّحدة سقطت في فخّ الأيديولوجيا، التي طالما كانت وسيلتها في التأثير على الآخرين، لينقلب بذلك السحر على الساحر؟
تحاول هذه المقالة الإجابة عن هذين السؤاليْن انطلاقاً من التماهي الأيديولوجي الديني مع فكرة “إسرائيل” التي ارتكزت عليها نشأة الولايات المتّحدة، وتطوّرها، بالتوازي مع بناء المجتمع الرأسمالي، واستناداً إلى تحليل الشخصية الاجتماعية الأميركية، كما قدّمها عالم الاجتماع الأميركي ديفيد رايسمِن وزميلاه؛ ريويل ديني وناثان غليزر، في الطبعة المُختصرة من كتابهم “الحشد المنعزل: دراسة في تغيُّر الشخصية الأميركية”، الذي نشرته جامعة ييل عام 1969.
دعونا نُقدّم تعريفاً مبسّطاً للأيديولوجيا بأنّها منظومة من المعتقدات والآراء لمجموعة ما أو فرد ما. وغالباً ما تشير كلمة أيديولوجيا إلى الفِكَرِ التي تميّز ثقافة بعينها، مثل العنصرية والشيوعية والرأسمالية. لكنّ الأكثر أهمّية من هذا التعريف هو انتقال الفكر الأيديولوجي إلى ممارسات تجري في حيّز الواقع الاجتماعي، لتكتسب مفعول السياسات العملية، التي تنعكس، بدورها، على تكوين الوظيفة الاعتبارية لمفهوم السلطة/ الدولة، بحكم الشرعية القانونية.
من هنا، يرى كاتب هذه السطور أنّ لويس ألتوسير طرح في كتابه “الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية” نظرية عامة تخدم هذه الفكرة، وتقوم على أنّ “الأيديولوجيا ليست فكرة نظرية مُتخيَّلة، بل لها وجود مادي ملموس، وشكل مؤسّساتي يتمثّل في منظومة ممارسات يجرى فرضها وإنفاذها بصفتها (طقساً مادياً)”. الجدير بالذكر أنّ ألتوسير ميَّز بين جهاز الدولة القمعي، الذي يكون جهازاً واحداً بعينه، وأجهزتها الأيديولوجية، المُتعدّدة الموجودة، التي تمارس “عنفاً رمزياً”، وتتمثل في الأسرة والمدرسة صعوداً إلى مؤسّسات العمل والترفيه، وتسهم في الواقع الفعلي في إعادة إنتاج علاقات الإنتاج، كما يقول ألتوسير، عبر ترسيخ الأيديولوجيا السائدة في عقول الناشئة، وتشكيلهم حسب الواقع الاجتماعي، لتصبح الأيديولوجيا، في الممارسة العملية، سلاحاً ثقافياً يحمي المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة.
انطلاقاً من هذا العرض النظري، هل يمكن لأحد أن يعترض على القول إنّ الولايات المتّحدة، تاريخياً، تأسّست على الفكر المنفعي الرأسمالي، والتماهي الأيديولوجي مع فكرة إسرائيل الأرض الموعودة؟ أيّ أنّ ما نراه اليوم كياناً سياسياً وقوة نووية عظمى قام أساساً على مُركَّبٍ ثيواقتصادي.
في كتابه “الدين في القرار الأميركي” (دار النفائس، بيروت، 2003)، يكتب محمد السماك إنّ ظهور المسيحية الصهيونية وانتشارها في الولايات المتّحدة، ونفوذها الكبير، هما “أصل البلاء” في نجاحها في استقطاب شرائح واسعة من الأميركيين، حتّى أضحى جزء كبير منهم “يشعر أنّه من شعب الله المختار، اختاره لفرض مشيئته على الأرض، ويمتاز عن بقية البشر”.
لكنّ السؤال، هنا، يبقى مطروحاً؛ إن كانت المسيحية الصهيونية أمراً مُستجدّاً طارئاً، أو حديثَة العهد في الولايات المتّحدة. هناك كثير من الكتب والدراسات توضّح أنّ المسيحية الصهيونية كانت في صميم التكوين الفكري والعقائدي للمستوطنين الأنكلوساكسون البروتستانت في العالم الجديد، وهم، وراثياً، أسلاف أقطاب المنظومة العامّة، التي تتحكّم اليوم بالمفاصل السياسية والاقتصادية في الولايات المتّحدة، بغض النظر عن الهُويّة الحزبية، ديموقراطية كانت أم جمهورية.
قد لا يجهل أحدٌ أنّ موجات الهجرة الأولى، من بريطانيا إلى العالم الجديد، جاءت مدفوعةً بسعي جماعة الأطهار (البيوريتان) إلى الفرار من الاضطهاد الديني والملاحقة، بعد إطاحة مسار ثورة كرومويل. ولا يجهل أحدٌ أيضاً أنّ جماعة الأطهار هم جناح مُتطرّف في ما يعرف تاريخياً باسم حركة الإصلاح البروتستانتية، التي كانت ترى أنّ الإيمان بما جاء به “العهد القديم” هو أساس الديانة المسيحية الحقّة.
وليس مستغرباً أن نقرأ أنّ المهاجرين الأنكليز الأوائل إلى أميركا أطلقوا على مدنهم أسماءَ توراتية، بل أطلقوا على أميركا اسم “أرض الميعاد” و”إسرائيل الله الجديدة” و”صهيون”. ومن هذا المنطلق، قدّم المسيحيون الأطهار أنفسهم أنّهم المهاجرون الهاربون من الفرعون؛ الملك تشارلز الأول، ليكون المحيط الأطلسي هو البحر الأحمر، وأميركا هي “الأرض الموعودة”، وبوسطن هي “القدس الجديدة”.
دعونا نستذكر وحسب أنّ ثلاثة من الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة، وهم جيفرسون وآدمز وفرانكلين، اقترحوا عام 1776 أنّ يتضمّن شعار البلاد صورة فرعون وهو يطارد بني إسرائيل، بينما يُضيء عمود من النار طريقهم، في إشارة إلى أنّ أميركا هي أرض إسرائيل الثانية. وبعد اعتلائها المسرح العالمي، دأبت الولايات المتّحدة، بفضل نفوذها الاقتصادي متمثلاً في الدولار، وقوتها السياسية التي تستعرضها الأساطيل الحربية، على عولمة الشخصية الأميركية بصفتها شخصيةً أخلاقيةً، وتصديرها أيقونة للحرّية والديمقراطية، بل فرضها بوساطة قوّتها الناعمة.
في كتاب “الحشد المنعزل: دراسة في تغيُّر الشخصية الأميركية”، يحدّد ديفيد رايسمِن وزميلاه الشخصية الأميركية ضمن ثلاثة أنماط ثقافية: نمط مُوجَّه بالتقاليد، ونمط مُوجَّه داخلياً، ونمط مُوجَّه من الآخر، سواء أكان هذا الآخر مؤسّساتٍ أو أفراداً.
يشرح الكتاب أنّ الولايات المتّحدة بعد الثورة الصناعية نجحت في تطوير دولة الطبقة الوسطى، ومن ثمّ فإنّ المؤسّسات التي ازدهرت ضمن إطار النمط الذي تحدّد التقاليد السائدة بوصلته، أو نظيره المُوجَّه داخلياً، باتت أمراً ثانوياً في الحياة اليومية. ومن هذا المنطلق، تحوّلت الطبقة الوسطى تدريجياً عن التمسك بالتقاليد، أو الالتزام بالمؤسسة الدينية أو المواثيق والأعراف الاجتماعية. ويرى رايسمِن أنّ الوفرة المادية، وزيادة القدرة الاستهلاكية للأفراد رسمتا معاً منحنى الانتقال من النمط المُوجَّه داخلياً إلى النمط المُوجَّه من الآخر.
وما يقصده الكتاب بهذا النمط من الشخصية الاجتماعية هو الاستجابة والتفاعل مع القوى الاجتماعية، من ناحية؛ كيف يعيش الآخرون وما يستهلكون، وماذا يفعلون في حياتهم، وما هي آراؤهم في السياسة والعمل، وإلى غير ذلك من مناحي الحياة.
ويكتشف مؤلفو الكتاب أنّ هذا النمط من الأفراد كان أكثر طواعية ومرونة، واستعداداً لاستيعاب الآخرين كسباً للقبول. وبحلول الأربعينيات من القرن الماضي، يقول رايسمِن، أصبح هذا النمط تدريجياً هو السائد في المجتمع الأميركي. وتنبّأ الكتاب بأن تظهر سلوكيات عملية في المستقبل بالنسبة إلى أفراد “تكون الرمزية أداتهم والاستجابة من الآخر هي هدفهم”، في إشارة إلى الإعلانات والتسويق التجاري والمشاهير، ووسائل الإعلام، والمؤسّسات ذات الصلة بالشأن العام. أما في السياسة، فخلص رايسمِن إلى أنّ النمط الموجَّه من الآخر يقارب الحياة السياسية من منظور “المستهلك لا المنتج”، أي المُتلقّي السلبي لا الفاعل المُؤثّر.
صحيح أنّ الكتاب ينتمي تاريخياً إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنّ كثيرون من الباحثين يعدّونه ركيزة أساسية في فهم التحولات التي طرأت على المجتمع الأميركي حتّى وقتنا الحالي. ومن هؤلاء الأكاديمي والباحث ويلفريد ماكلاي، الذي يُعدُّ واحداً من أهم الباحثين في مؤسّسات الخزّان الفكري. ماكلاي، وفي مقالة نشرها مركز وودرو ويلسون في مجلته الفصلية لصيف عام 1998 بعنوان “خمسون عاماً بعد الحشد المنعزل”، يشدّد على ما توصّل إليه الكتاب، ويشير إلى أنّ التدقيق والبحث في الثقافة الأميركية المعاصرة (أي نهاية التسعينيات)، وتحديداً في مجال تربية وتعليم الأطفال، سيكشف الدليل على وجود “تحوّل أيديولوجي كبير يفضل الاستسلام والخضوع للمجموع إلى نظام تكون فيه المجموعة الأخرى المقابلة هي مقياس كلّ شيء، ومع دفاع محدود لدى الفرد، لا تحتاج المجموعة أصلاً إلى تحطيمه واختراقه”.
نحن الآن أمام صورة متكاملة تبيّن أنّ الشخصية الأميركية خاضعة لفكر المجموع، أي، حسب رايسمِن، شخصية يوجّهها الآخر ممثلاً بأيديولوجيا الفكر المنفعي، ووسائل الإعلام، التي تُدجّن هذه الشخصية لتكون تابعاً لنظام سائد، وهذا يعيدنا إلى مقولة ألتوسير عن أجهزة الدولة الأيديولوجية، التي تمارس عنفاً رمزياً. لكن، وهنا النقطة الأكثر أهمّية برأي كاتب هذه السطور، أنّ ما تناوله رايسمِن في كتابه عن مقاربة النمط الموجَّه من الآخر مع السياسة يبقى محصوراً في اللعبة السياسية الداخلية، التي يتنافس فيها الحزبان الجمهوري والديموقراطي، إذ نرى هذا الآخر (مؤسّساتٍ وأفراداً) يوجه الخيار السياسي بما يخدم، حسب ألتوسير، علاقات الانتاج ووسائله.
لكن إن أخذنا السياسات الخارجية الأميركية، وتحديداً تجاه “إسرائيل”، فربما نجد أنّ النمط الثقافي المُتمسّك بالتقاليد والموروث الديني هو السائد، وليس النمط الموجَّه من الآخر وحسب. حتّى وإن قبلنا تصنيف رايسمِن وطبّقناه على هذه الجزئية من الموقف السياسي للشخصية الأميركية، فسنجد النتيجة ذاتها، لأنّ الآخر الذي يوجّه هو بالأساس نمط تقليدي مُحافظ يؤمن حتّى نخاع العظم بالمسيحية الصهيونية. لذلك قد يختلف الجمهوريون والديمقراطيون على كلّ شيء ما عدا دعم “إسرائيل”، والتاريخ يشهد على ذلك.
يقودنا هذا إلى تساؤل منطقي: ما هي أسباب التظاهرات الطلابية ودوافعها في الجامعات الأميركية، إن كان هؤلاء الشبان والشابات ينتمون أصلاً إلى النمط الثقافي الموجَّه من الآخر، كما حدّده رايسمن، المتماهي إلى حدّ كبير مع السردية التاريخية لفكرة الأرض الموعودة المتوارثة جينياً، التي دأب النظام التعليمي ووسائل الإعلام والمفكّرون والكُتّاب على ترسيخها في الوعي الجمعي الأميركي. هناك عوامل عديدة تقف وراء التظاهرات الطلابية المناهضة للعدوان “الإسرائيلي” على غزّة، يمكن حصرها في ثلاثة أسباب رئيسة.
أولاً، تجاهل صانع القرار الأميركي أنّ تكنولوجيا العولمة سلاح ذو حدّين من التأثير والتأثّر، ما دام المحتوى قادراً على تقديم مادة ذات مصداقية، وقدرة على الإقناع. والجيل الطلابي الجامعي في الولايات المتّحدة نشأ وتربّى في كنف تكنولوجيا العولمة، ويمتلك القدرة المعرفية والفنية على كشف المزيّف والحقيقي. لذلك كانت الصور التي تخرج من غزّة، بعيداً عن تشويه الخطاب الإعلامي الأميركي الرسمي والخاص، كفيلةً في إحداث حالة من “الشيزوفرينيا” الأخلاقية لدى الطلبة الجامعيين، الذين ترعرعوا على صورة “أميركا الأخلاقية”، ليجدوا أمامهم مذبحة حقيقية تجري أمام أعينهم بدعم من “الأخلاق الأميركية”. أي أنّ فكرة التدجين الثقافي للآخر بواسطة تكنولوجيا العولمة، التي دأبت الولايات المتّحدة على ممارستها، ارتدّت عليها سلباً.
ثانياً، لا يمكن إسقاط العامل الاقتصادي من هذه المعادلة، فالمشكلات الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتّحدة وارتفاع تكاليف المعيشة، بما فيها رسوم التعليم الجامعي الباهظة، دفعت عديداً من الأميركيين، وليس الطلبة وحسب، إلى التساؤل: لماذا يجب عليّ أن أدفع الضرائب التي تذهب لدعم “إسرائيل”، في الوقت الذي نعاني فيه من مصاعب الحياة؟
ثالثاً، انكشاف النفاق الغربي عموماً، والأميركي على وجه الخصوص، في التعامل مع الأزمات الإنسانية، من خلال مقارنة موقف واشنطن من الحرب الروسية الأوكرانية، ومن العدوان الإسرائيلي على غزّة.
لكن، وإن سلّمنا بصحة هذه الاستنتاجات، تقتضي الحكمة أن نتذكّر أنّ هذه التظاهرات تبقى محصورة في فئات لا تمتلك تأثيراً كبيراً في السياسة الخارجية الأميركية، وما نسمعه اليوم من تصريحات رسمية، غير ودّية، تجاه بنيامين نتنياهو وحكومته، إنّما تأتي بدافع المصلحة الانتخابية، ومحاولة تلميع الصورة لا أكثر، مع ضرورة التذكير بأنّ الذئب لا يتخلّى عن فريسته بسهولة.