مقالات

سلام «ترامب» الموهوم!

ترامب

“المدارنت”..
الذين تابعوا خطابات ـ لا خطاب ـ الرئيس الأميركي الجديد القديم دونالد ترامب قبل أيام، قد يلحظون انتفاخ الرجل وفخره المجنون بنفسه، وشهوة تدفق كلامه عن استعادة عظمة أميركا، وكأنه يقصد ـ بلغة الجسد ـ استعادة عظمته الشخصية.
وفي رده على سؤال لم يعجبه من أحد الصحافيين، كان رده الفوري لافتا، فقد ترك السؤال جانبا، وهاجم صحافي بضراوة وصلف، وقال له «لا تتحدث معي بهذه الطريقة»، وأضاف زاجرا «إعرف أنك تتحدث مع رئيس الولايات المتحدة الأميركية»، ثم ترك الصحافي واستدار إلى الآخرين، فوق أنه ضرب مثالا على المقدرة على إنجاز المستحيل بنفسه شخصيا، وقال إن إعادة انتخابه وفوزه الكبير كان معجزة، لم يتصورها أحد، وربما يكون إفراط ترامب الصاخب في الاعتداد بذاته نقطة ضعف قاتلة في عهده الجديد كله.

وقد بدا حريصا على الظهور بصورة الرجل القوي الإمبراطور، وهو يتحدث عن ما سماه تحقيق «السلام بالقوة»، وقال إنه سينهي الحروب التي تشارك بها أميركا، وإن معيار قوة أمريكا لم يعد بمرات الفوز بالمعارك، بل في تجنب خوض الحروب من أصله، وفي الوقت نفسه، كان ترامب مبادرا لإشعال الحروب والأزمات والغزوات في كل اتجاه، من أول تغيير اسم «خليج المكسيك» إلى «الخليج الأمريكي»، ثم إعلان رغبته في استعادة السيطرة بالقوة على «قناة بنما»، كما السيطرة على «جزيرة غرينلاند» التابعة لدولة الدنمارك، وهي الجزيرة الأكبر في البحار، وتزيد مساحتها على مليوني كيلومتر مربع، وقد أعلنت بنما والدنمارك رفضهما البات لأي عدوان على وضع «قناة بنما» و»جزيرة غرينلاند»، كما اعترضت روسيا على أطماع ترامب في «قناة بنما»، وأبدت الدول الأوروبية مساندتها لدولة الدنمارك في قصة غرينلاند.
ولم يوفر ترامب أحدا من حلفاء واشنطن وأصدقائها وتابعيها، وهدد الجميع بلغته الأوامرية الصارمة، وطالبهم جميعا بسرعة الدفع لخزائن واشنطن الخاوية، وزاد نسبة المبالغ المطلوبة من حلفاء واشنطن في حلف شمال الأطلنطى «الناتو»، وصعد بها من 2% من ناتجهم القومي الإجمالي إلى 5% سنويا، وربما يصعد بالإتاوة إلى 7%، وكل ذلك تحت شعار أنه لا خدمات دفاع مجانية.
واشترط على دولة شرق أوسطية بترولية، أن تزيد عروض شرائها لسلع وأسلحة أميركية إلى 500 مليار دولار، إن أرادت أن يشد رحاله إلى عاصمتها، ومعه وعود الدفاع والحماية وبركة الزيارة، وهو ما يعكس تفكيره «البيزنسى» القديم في فن عقد الصفقات، والقائم على الدعاية والتهويل والتخويف مقابل التحصيل المالى بأعلى سعر، فهو يرغب في إنقاذ أميركا باعتصار أموال الآخرين من حلفاء واشنطن أولا، ربما باستثناء بقرته المقدسة «إسرائيل» التي كلفه الرب بالدفع لها.
وقد ألغى ما كان يسمى «الخطة الخضراء» والاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة والحد من التلوث، وانسحب مجددا من «اتفاقية باريس» للمناخ، وبغرض إطلاق الإنتاج الأمريكي من البترول والغاز الصخريين لأعلى سقف، وإلزام الغرب الأوروبي والشرق آسيوي بشراء البترول والغاز من أميركا حصرا.
وانقلب على قواعد حرية التجارة والعولمة الاقتصادية بالجملة، وأعلن عن فرض حواجز حمائية وضرائب جمركية مرتفعة على فرص الآخرين في النفاذ إلى السوق الأمريكية، ولم يخف الحلفاء في أوروبا، وفي الجوار، ضيقهم من الإعاقات الجمركية، فقد انتاب ترامب الفزع من تراجع صادرات أمريكا، ومقدرتها على المنافسة الحرة، سواء مع الواردات المكسيكية والكندية، أو مع دول الاتحاد الأوروبي، التي قرر رفع الجمارك على بضائعها وصادراتها إلى 20% و25%، بينما حظيت «الصين» ـ طبعا ـ بالجانب الأعظم من انتقامه الاقتصادي، وأعرب عن رغبته في رفع الجمارك على صادرات الصين إلى مستويات جنونية، وقد كان ذلك دأبه نفسه في فترة رئاسته الأولى، وشنه الحروب التجارية على الصين، ومن دون أن يؤدي ذلك إلى إلحاق أذى بالصين، أكبر مما لحق بأميركا،.
فقد تحكمت الصين في معادلات التبادل التجاري، وردت على ترامب وبايدن من بعده، بإجراءات مماثلة، وبتقييد استيراد «فول الصويا» أهم واردات الصين من أمريكا، ولا تبدو اتصالات ترامب الاحتياطية المبكرة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ مبشرة لأمريكا، رغم قوله مؤخرا إن الرئيس الصيني يحترمه، ويعرف أنه ـ أي ترامب ـ شخص «مجنون»، وتبدو علاقة الطرفين كذلك فعلا، فالصين ليست بحاجة إلى مقارعة الجنون بجنون، وتتصرف بهدوء وثقة، وقد نجحت على مدى عقود في كسب حرب العولمة الاقتصادية، التي يسعى ترامب للانسحاب منها.
رغم أن أميركا هي التي بشرت وبادرت إليها تاريخيا، وضغطت على الدنيا كلها طويلا لفتح الأسواق، وتفكيك القيود وتصفيرالجمارك على حرية التجارة، وتنسحب اليوم إلى ظل الإجراءات الحمائية، بما يعكس إفلاسها التاريخي في مباريات الإنتاج والصناعة والتجارة وحتى التكنولوجيا، وإلى حد عرض ترامب لشراء نصف الشركة المالكة للتطبيق الصيني «تيك توك»، مقابل وقف سريان قانون حظر التطبيق داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أفرط ترامب نفسه في امتداح مزايا وشعبية التطبيق الصيني الشهير، وكيف أنه كان واحدا من أهم أسباب فوزه الأخير بانتخابات الرئاسة الأمريكية مجددا.

وبالجملة، تتعثر وسائل ترامب لإنقاذ اقتصاد أمريكا، الرازح تحت ثقل ديون داخلية وخارجية تزيد على 35 تريليون دولار، فيما تبدو صيغ الإنقاذ «الترامبية» ابتزازية تماما، وأقرب إلى البلطجة والسرقات العلنية المباشرة، وبدعوى «إنهم يسرقون أمريكا» فدعونا نسرقهم، أو أن نستولى على بلادهم كما هدد كندا وبنما والمكسيك وفنزويلا والدنمارك، ثم أن نطردهم خارج أمريكا، كما في حملات طرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين عبر حدود المكسيك.
وبقدر ما تلقى هذه الصيحات «الشعبوية» من تأييد ظاهر في الداخل الأمريكى، فإنها ـ رغم ذلك ـ لا تقدم حلا ناجزا لأزمات أمريكا الداخلية، فوق أنها لا تقود إلى سلام عالمي موهوم، يتحدث عنه الرئيس الأمريكي، وكأنه امبراطور روماني قديم، يصنع سلام الإذعان على طريقة «روما» وقت أن كانت تتحكم بالدنيا ومن عليها، ويريد حجز ثروات العالم وأمواله في خزانة واشنطن، مقابل التهديد بهراوة قوة لا يضطر إلى استخدامها، فيكفي ـ عند ترامب ـ أن تنخلع قلوب الآخرين من رهبة القوة الأمريكية، حتى يخضعوا ويدفعوا صاغرين وبالتي هي أسرع، وهو تفسير وتناول بدائي مبسط لتعقيدات العالم الراهن، ولقواه الفوارة المتصارعة في ميادين السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، فالعالم يمر من عقود بدراما تحول عاصفة، يعاد فيها توزيع موازين القوة، ورسم خرائط تعدد الأقطاب، ولم تعد أميركا كما كانت قبل عقود، تلك القوة المرغوبة المرهوبة بعد انهيار الاستقطاب الثنائي وذهاب موسكو الشيوعية.
ولم تعد أميركا تلك القوة الوحيدة المهيمنة الأعظم على عرش العالم، بل ولم يعد الغرب كله في موقع احتكار التقدم والسيطرة الحصرية، وهو ما قد يفسر بعض تناقضات خطاب ترامب، فهو لا يرغب في اختبارات مضافة للقوة الأمريكية العسكرية، بعد أن أدت اختبارات سبقت إلى كسر هيبة أمريكا، وترامب يفضل التلويح والتهديد بالقوة لا استخدمها فعليا، وعلى ظن أنه يثير ذعر الآخرين، ويضمن استسلامهم الفوري، وهو ما لا يبدو واردا ولا محتملا، فالقوة العسكرية التي تملكها روسيا والصين معا، أكبر بكثير من مجموع القوة العسكرية الراهنة لواشنطن والغرب كله.
والصين التي تتقدم بثبات إلى عرش العالم اقتصاديا وتكنولوجيا، تتقدم في السنوات الأخيرة إلى بناء قوة عسكرية جبارة، يجري تحديثها المتسارع بقفزات هائلة صامتة، وسبقت واشنطن نفسها إلى بناء الجيل السادس من القاذفات المقاتلة ووسائط الدفاع الجوي، فوق سبقها مع روسيا في عوالم القذائف والصواريخ الفائقة لعشرات أضعاف سرعة الصوت، وأسلحة الليزر والنبضات الكهروـ مغناطيسية وغيرها، فوق امتلاك الترسانات النووية الأكثر تطورا وتدميرا، وهو ما قد يعني ببساطة، أنه لا أحد قد يترك ترامب للكسب ببلطجاته ومخاطراته وصفقات ابتزازه الكونى، فللقوة الأميركية حدودها، فوق توافر روادعها بإضطراد، وهو ما تبدو أماراته ظاهرة في ساحات الصغار والكبار على السواء.
يكفي ـ مثلا ـ أن جماعات مقاومة فلسطينية ولبنانية صمدت لبطش القوة الأمريكية و»الإسرائيلية» في حرب الإبادة، ويكفي ـ مثلا ـ أن جماعة «الحوثي» اليمنية أعجزت «الأرمادا» الأمريكية عن فتح طرق ملاحة البحر الأحمر، ناهيك عن ما حل بالقوة الأمريكية والغربية كلها في الميدان الأوكراني على يد الروس، وهو ما يميل ترامب نفسه إلى الاعتراف به، وتسريع الانسحاب من أوكرانيا ربما بغير «خفى حنين».

المصدر: د. عبد الحليم قنديل/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى