سوريا.. إما تسوية مرضية أو فلتان كامل!
“المدارنت”..
إذا كان ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي على حدود قطاع غزة زلزالا حقيقيا في المنطقة فإن ما حدث بعده في لبنان هو بالتأكيد من توابعه، وكذلك شأن ما يجري حاليا في سوريا منذ زهاء الأسبوع فهو من توابع التوابع.. وما زالت الصفائح الأرضية المختلفة في حالة حراك دائم ولا أحد يعرف على ماذا ستستقر في النهاية.
ما يجري في سوريا حاليا معقّد ومفتوح على احتمالات شتى، خاصة وأن المتدخلين فيه كثر وحساباتهم متداخلة ومتناقضة في الغالب. من الصعب كذلك التكهّن مسبقا بما ستؤول إليه الأحداث لأنها ترتبط في النهاية بتلك الحسابات لدى كل من تركيا وإيران وروسيا ومدى قدرتها على توجيه كل منها لدفة الميدان في الاتجاه الذي ترغب فيه. ومن وراء كل هؤلاء تقف الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل تراقب عن كثب لأن لديها مصلحة أكيدة هي الأخرى تريد جنيها، فيما قد لا تدري فصائل المعارضة السورية المسلّحة ما إذا كانت قادرة على جني بعض ما كانت تحلم به قبل أكثر من عشر سنوات حين ثارت على حكم بشار الأسد وكادت أن تسقطه.
من الطبيعي جدا أن يرى الرئيس السوري أن ما يجري في بلاده «محاولة لتقسيم المنطقة وتفتيت دولها وإعادة رسم الخرائط من جديد» ومن الطبيعي كذلك أن تعتبر طهران ذلك نتيجة «مخطط صهيوني وأمريكي من أجل صرف الأنظار عن المجازر وأعمال الاحتلال التي تحصل في غزة» لكن الأكيد أن المشهد أكثر تعقيدا من كل ذلك فهو مرتبط بجملة تحوّلات جيوستراتيجية تبدو المنطقة كلها مقبلة عليها مما يجعلنا ننتظر تغييرات كبيرة مختلفة قد لا يكون ما يجري حاليا في سوريا سوى تجلياته الأولى التي لم تتبلور نهاياتها بعد.
حالة الهدوء التي سادت سوريا هناك طوال الأشهر الماضية خدعت الكثيرين ممن ظنوا أن وضعا كهذا يمكن أن يستمر مع أنه يحمل في أحشائه بذور انفجاره مع أول شرارة قادرة على إشعاله من جديد وهذا ما حدث بالضبط.
حالة الهدوء التي سادت سوريا هناك طوال الأشهر الماضية خدعت الكثيرين ممن ظنوا أن وضعا كهذا يمكن أن يستمر مع أنه يحمل في أحشائه بذور انفجاره مع أول شرارة
رأت المعارضة المسلّحة من خلال عمليتيها «ردع العدوان» و«فجر الحرية» اللذين يبدو أنهما اندمجا في أكثر من ساحة ميدانية على الأرض السورية، أن هناك لحظة فارقة يجب التقاطها بسرعة لتغيير ذلك السكون الملغوم الذي كانت عليه البلاد، ولا شك أن ذلك ما كان ليتم دون تهيئة أو إيعاز بشكل أو بآخر من قبل تركيا التي ملّت هي الأخرى من هذا الوضع. طبعا أنقرة مستاءة ومغتاظة من الصد الذي لقيته من بشار الأسد تجاه كل محاولاتها المستميتة للتصالح معه، وهي في نفس الوقت ترغب بقوة في إعادة اللاجئين السوريين لديها إلى وطنهم وفي نفس الوقت التأكد من ضمان أمن حدودها خاصة لجهة إجهاض أي مسعى كردي لتحويلها إلى ملاذ آمن ونقطة انطلاق لعمليات مسلحة ضدها.
أما روسيا، فرغم حرصها على دعم نظام دمشق ومنع سقوطه في يد المعارضة المسلّحة، فإنها تبدو مستاءة هي الأخرى من تكلّس بشار الأسد وعدم تفاعله لا مع المساعي التركية للمصالحة ولا مع ما يفترض أن نصّت عليه محادثات أستانا عاصمة كازاغستان في يناير / كانون الثاني 2017 التي جرت بين ممثلي الدولة السورية وعدد من قادة فصائل المعارضة وكان يؤمل أن تضع قطار التسوية بينهما على السكة لكن هذا القطار لم يغادر محطته بعد. وقد تكون موسكو غير منزعجة كثيرا مما يحدث حاليا في سوريا طالما أنه باق في حدود تقليص النفوذ الإيراني هناك والذي كثيرا ما نافسها أو ضيّق عليها تحركاتها هناك.
إيران هي المتضررة الأولى من أحداث سوريا الحالية فقد رأى مناهضو ما فعلته في سوريا، من إنقاذ لنظام الأسد ومن فتك بمعارضيه وإطلاق يد الميليشيات الشيعية القادمة من العراق وغيرها، في تراجع دورها بعد الضربات الإسرائيلية التي وجّهت لحزب الله في لبنان والتي دفعته هو الآخر لسحب بعض قواته من سوريا، بالتوازي مع إعادة انتشار فصائل شيعية عراقية لقواتها بعيدا عن حلب، فرصة قد لا تتكرر لتغيير موازين القوى في سوريا ومحاولة توجيه ضربة قاسية للنفوذ الإيراني في سوريا وهو شريان الحياة لنفوذها في لبنان من خلال حزب الله. وهذه النقطة تحديدا لا يمكن لواشنطن وتل أبيب سوى أن تكونا مرتاحتين لها بلا شك.
من المبكّر الجزم بأي شيء الآن، لكن الأكيد أن الشعب السوري في معظمه وهو يتابع صراع هؤلاء الكبار على أرضه لا يطمع سوى في استعادة وحدة بلاده واستقرارها وحياة كريمة بعيدا عن القمع والاستبداد وكف أذى الجميع عنه، وهذا كله لا يتأتى إلا بتسوية سياسية تفتح أمل التغيير الديمقراطي السلمي.
هذا لن يتأتى، حاليا على الأقل، سوى بالإسراع في إحياء وإنضاج هذه التسوية، على الأقل كما حدّدتها صيغة أستانا، بحرص جاد من تركيا وروسيا وإيران قبل أن تفلت الأمور من يد الجميع ويصبح التدارك مستحيلا.