سوريا.. هل تمنع نجاحات الديبلوماسية أخطار الداخل؟

“المدارنت”
ازدحمت أحداث الواقع السوري هذا الأسبوع بشدة فبدت البلاد، في عيون أهلها والعالم، مثل سفينة تتلقى موجات تدفعها بعضها إلى الوراء وموجات أخرى تتقدم بها بسرعة نحو وجهتها.
أدت «موجة» اضطرابات داخلية إلى اشتباكات بين مسلحين من فصائل سنية ونظراء لهم من الطائفة الدرزية في ريف دمشق (جرمانا ثم أشرفية صحنايا وريف السويداء) فوسّعت إسرائيل تدخلاتها العسكرية التي لم تنقطع منذ سقوط نظام بشار الأسد، لكنها أكدت، هذه المرة، أنها تقوم بذلك لـ»حماية الدروز».
من المفروغ منه أن تحرّكات إسرائيل تقوم على خطط استراتيجية خطيرة أبعد بكثير من هذه المزاعم تجاه سوريا والأردن ولبنان (وفلسطينيي الضفة وغزة بطبيعة الحال) لكن ذلك لا يعني عدم وجود وضعية خاصة لدروز سوريا، الذين عانوا، مثل غيرهم من السوريين، من آثار 14 سنة حرب، فاعتمد عدد كبير منهم على الدعم القادم من أشقائهم خلف أسلاك إسرائيل الشائكة على الحدود، وأن هذا الدعم تضافر مع خوف الأقلية الصغيرة من العصبية السنّية لفصائل السلطة الجديدة، ليصنع رابطا قويا مع أولاد عمومتهم في فلسطين التاريخية، الذين يشكلون عنصرا داخليا مهما في تركيبة إسرائيل التي جنّدت أفراد الطائفة (حوالى 150 ألف نسمة حاليا) منذ إنشائها عام 1948، ضمن قواتها العسكرية والشرطية.
شهدنا في المقابل موجة نجاح دبلوماسي مهم للسلطات السورية الجديدة تمثّلت بدعوة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس ولقائه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وجّه انتقادات مهمة فيما يخصّ معاملة دمشق للدروز والعلويين والكرد لكنه وعد في المقابل بالسعي لوقف العقوبات الأوروبية على سوريا، والضغط على أمريكا بالاتجاه نفسه، الأمر الذي بدأت تباشيره بالتحقق بسرعة مع إعلان موافقة واشنطن على مبادرة قطر لتمويل القطاع العام السوري مما يوفر شريان حياة مالي للحكومة السورية الجديدة الساعية لإعادة دولة دمرها الصراع.
يحاول «ربان السفينة» السورية الجديد، بوضوح، بلورة مزيد من السعي الدبلوماسي مستفيدا من التوقيت المناسب لزيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، فحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية فإن الشرع يعمل على إقناع إدارة ترامب «المتشككة» من تاريخه الجهادي السابق بأن التغير الذي طرأ على مفاهيمه حقيقي، وأنه يرغب في كسب دعم واشنطن في إعادة إعمار سوريا متخذا، في هذا السياق، إجراءات ملموسة لتلبية المطالب الأمريكية، بما في ذلك التواصل مع إسرائيل عبر وسطاء، وأن الشرع أعرب عن رغبته في لقاء ترامب لإقناعه بنجاعة «خطة مارشال» أمريكية لسوريا.
كان هناك تحرّك آخر على الأرض في هذا الاتجاه، كما تقول الصحيفة، حيث أن رئيس شركة أمريكية للغاز الطبيعي المسال، مقرّب من ترامب، عرض على الشرع خطة لتطوير موارد الطاقة في البلاد، وأن الرئيس السوري رد على الاقتراح بشكل إيجابي، مشيرا، في الوقت نفسه، أن تنفيذ ذلك يستلزم تخفيف العقوبات الأمريكية على البلاد، فيما أكد مسؤولون سوريون آخرون لرجل الأعمال أن «دمشق تأمل أن تصبح حليفة مهمة لواشنطن»، مع تقديم وعود لإخراج الروس والإيرانيين والصينيين من سوريا و«إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية».
تزامنت هذه التطوّرات المتلاحقة مع حدث مهم أيضا تمثل في محادثات بدأت أمس الخميس بين الجانبين التركي والإسرائيلي في العاصمة الأذربيجانية باكو بشأن الملف السوري. حسب المصادر الإسرائيلية فإن تل أبيب ستطرح مطالب تتضمن «عدم وجود قوة عسكرية قرب الحدود»، و«خلو سوريا من أسلحة استراتيجية»، و«عدم تشكيل سوريا تهديدا مباشرا لإسرائيل»، وكذلك مع إعلان صحيفة «هآرتس» اليسارية الإسرائيلية عن فتح دمشق «قناة اتصال» مع إسرائيل بوساطة من دولة الإمارات.
تشير هذه الأحداث إلى توجّه استراتيجي لدى السلطات السورية الجديدة يناقض بشكل جذري استراتيجيات نظام الأسد، وإلى إرادة براغماتية كبيرة لتجاوز العوائق الأيديولوجية المكرّسة حول تاريخ فصائلها الجهادي، وإلى إدراك واضح أن أخطار الداخل متراكبة بشكل كبير مع أخطار الخارج.
يثير هذا التوجه، بغض النظر عن دوافعه، التساؤل عن الحكمة في تواصل حكومة دمشق مع إسرائيل في ظل القصف الذي لم ينقطع ضد سوريا، وعن تجاهل السلطات السورية لسياسة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وخططها للتطهير العرقي للفلسطينيين، ومنها خطط لتهجيرهم إلى سوريا نفسها.