سوريا وتركيا و”كُرْدَهُمَا”!

“المدارنت”..
استخدم وزير الدفاع التركي يشار غولر، في تصريحات إعلامية قبل أيام، تعبير «قوات سوريا الديمقراطية» وذلك للمرة الأولى على لسان مسؤول تركي رفيع. فطوال السنوات السابقة، وإلى وقت قريب، كان المسؤولون الأتراك يستخدمون أسماء «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات حماية الشعب» بوصفهما «كيانات إرهابية» تابعة لحزب العمال الكردستاني، إلى جانب «داعش» وجماعة فتح الله غولن، ويطالبون المجتمع الدولي بتبني هذا التوصيف. وكان الاختلاف حول هذا التوصيف مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية هو أحد أسباب الخلافات بين تركيا وتلك الدول.
لم يأت هذا التغيير من فراغ، بل سبقه ترحيب تركي رسمي بالاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، وتوقف العمليات العسكرية في منطقة سد تشرين بين فصائل «الجيش الوطني»، وظهيرها التركي من جهة وقوات قسد من جهة أخرى «على الساكت» أي بلا إعلان رسمي.
يمكن القول إن الدولة التركية قد اعترفت «على الساكت» أيضاً بقوات سوريا الديمقراطية كطرف في المعادلات الداخلية في سوريا. وعبر مظلوم عبدي، في تصريحات إعلامية مؤخراً، عن ارتياحه من تراجع التوصيفات التركية لقسد بالإرهاب.
تأتي هذه المرونة التركية المستجدة تجاه قسد في إطار سياسة جديدة للدولة التركية العميقة تجاه الكرد بدأت ملامحها تتضح منذ شهر تشرين الأول الماضي مع المبادرة التي أطلقها زعيم الحزب القومي المتشدد دولت بهجلي الذي تحالف مع أردوغان في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016.
وينظر إلى بهجلي، في الرأي العام المحلي، بوصفه ناطقاً باسم الدولة العميقة التي لها مصالحها ورؤاها المستقلة عن التغيرات في السلطة السياسية. ومع مضي الأسابيع والأشهر التالية على إطلاق المبادرة المذكورة اتضح وجود نوع من التباين غير المعلن بين الحليفين أردوغان وبهجلي. ففي حين يشكل البقاء في السلطة الهاجس الأكبر الذي يحفز أردوغان في قراراته وتصريحاته، ينطلق بهجلي من هواجس تتعلق بما يعتبره الأمن القومي لتركيا. وفي حين حافظ على خط هو الأكثر تشدداً تجاه حزب العمال الكردستاني والحركة السياسية الكردية طوال مسيرته السياسية، انقلب فجأةً إلى أكثر زعيم سياسي تركي تمسكاً بمبادرته التي تهدف إلى «تركيا خالية من الإرهاب». وبلغ به الأمر أن وصف أوجلان بأنه «القائد المؤسس» لحزب العمال الكردستاني بعدما كان الوصف الوحيد الذي كان يستخدمه بحقه هو «رئيس العصابة الإرهابية».
كما ألمح إلى إمكان إطلاق سراحه مقابل حله لـ«العمال الكردستاني». وكان أوجلان قد استجاب لنداء بهجلي فوجه حزبه لإلقاء السلاح وحل نفسه. بالمقابل أعلن قادة الحزب المذكور وقفاً لإطلاق النار في الأول من شهر آذار وموافقتهم على توجيهات أوجلان. صحيح أنهم طرحوا بعض الاشتراطات على رأسها «تأمين بيئة مناسبة» لزعيمهم السجين ليتمكن من المشاركة الفاعلة في المؤتمر الذي من المفترض أن يعلن فيه إلقاء السلاح وحلّ الحزب.
في غضون ذلك كان وفد من حزب الديمقراطية والمساواة (الكردي) يقوم بزيارتين لأوجلان تليهما جولة من اللقاءات مع قادة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان لاطلاعها على أجواء الزيارة وطلباً لدعمها للمبادرة السلمية. وقد التقى هذا الوفد أخيراً بالرئيس أردوغان، في الإطار نفسه، بعد قطيعة مديدة بين الجانبين منذ العام 2014 حين كان ثمة أفق لحل سلمي للمسألة الكردية سرعان ما فشل وتحولت العلاقة بين الجانبين من الحوار إلى العداء.
في هذه الأجواء من التفاؤل الحذر انفجرت قنبلة اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في 19 آذار فبدا أن تركيا تنزلق نحو مواجهة مفتوحة بين السلطة وحزب الشعب الجمهوري، بموازاة تراجع الاهتمام بملف بهجلي ـ أوجلان، وكأن من فجر تلك القنبلة قد استهدف المبادرة. غير أن بهجلي الذي غاب عن المشهد السياسي بسبب صحي قاهر أثناء حادثة إمام أوغلو وتداعياتها، عاد بقوة ليحتل مركز الاهتمام مجدداً من خلال إلحاحه أكثر من السابق على المضي في مشروعه، فدعا حزب العمال الكردستاني لعقد مؤتمره داخل تركيا، في مدينة ملاذغرد ذات الحمولة الرمزية الكبيرة في التاريخ التركي من منظور التيار القومي باعتبار المعركة المعروفة باسم تلك المدينة فاتحةً للسيطرة التركية ـ الإسلامية على الأناضول منذ العام 1071. بل أنه حدد موعداً لعقد المؤتمر في الرابع من شهر أيار القادم!
وها هي صحيفة «تركيا» المقربة من السلطة تنشر خبراً أسندته إلى «مصادر أمنية» جاء فيه إن حزب العمال الكردستاني يستعد لعقد مؤتمره في أوائل شهر أيار ليعلن حل نفسه على أن ينجز تسليم السلاح الذي يملكه للدولة التركية في الفترة الممتدة حتى نهاية شهر حزيران. مع عدم التخلي عن الحذر في التعاطي مع هذه الصحيفة، يمكن القول إن قطار الحل قد انطلق مع توقع وصوله إلى هدفه خلال أسابيع، وذلك بالنظر إلى التفاؤل السائد في أجواء الحركة السياسية الكردية.
هذا التوازي بين ما يحدث في كل من تركيا وسوريا بشأن موضوع كرد البلدين قد ينعكس إيجاباً على المشهد السياسي العام في كل منهما. فعلى رغم تفاقم الميول السلطوية لدى السلطة في تركيا، وبخاصة بعد حادثة إمام أوغلو، قد تتغلب اعتبارات الدولة العميقة المهجوسة بما أعلنه نتنياهو بشأن «إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط» قبيل انطلاق عملية ردع العدوان، على اعتبارات أردوغان بشأن مستقبله السياسي. وعلى الجانب الآخر من الحدود، حيث تتمتع تركيا بنفوذ كبير على إدارة الشرع.
ومن المحتمل أن يشكل اندماج قوات سوريا الديمقراطية في السلطة نوعاً من التوازن بين الميول الإسلامية المتشددة والميول العلمانية ـ الديمقراطية في المجتمع السوري، ويكون ذلك في الوقت نفسه استجابة لمطالب التشاركية، بدلاً من الاستئثار بالسلطة، التي يطالب بها المجتمع الدولي وقسم وازن من المجتمع السوري معاً.
هذه العمليات السياسية هي في طور الحدوث، وما قد يحدد نتائجها، إيجاباً أو سلباً، إنما يعتمد على النشاط السياسي لمختلف القوى الفاعلة على جانبي الحدود، سواء في ذلك القوى المحلية، وهي الأهم، أو تلك المعنية من الخارج.