سوريا.. ودروس العراق ثانية!
“المدارنت”..
حدث أول تفجير بسيارة مفخخة في بغداد بـ7 آب/ أغسطس 2003، أيّ بعد ما يقرب من أربعة شهور من سقوط نظام صدام حسين، أعقبه تفجير مبنى الأمم المتحدة ببغداد يوم 19 أب/ أغسطس، ثم تفجير بالنجف بتاريخ 29 أب/ أغسطس، أودى بحياة رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.
لا تعمل التنظيمات المسلحة بطريقة “ميكانيكية”، بل هي تعتمد على التنظيم وتحتاج إلى وقت لذلك، لا سيما أنها تنفذ عملياتها في بيئة تتسم بالانقسامات المجتمعية الواضحة، وتاريخ من الصراعات ذات الحمولة الطائفية، البيئة التي حكمت الدولة والمجتمع في العراق، وفي سوريا أيضا، خصوصًا بعد اندلاع الثورة السورية وتحصّن النظام بطائفته.
صدر أمس في دمشق، بيان إعلان انتصار الثورة السورية في أعقاب اجتماع لما أطلق عليه: «الفصائل العسكرية والثورية»، والبيان يخلو من معلومات تفصيلية عن أسماء هذه الفصائل أو طبيعتها! وتضمن جملة من الإجراءات الانتقالية من بينها قرارات إشكالية مثل:
إلغاء دستور العام 2012، وإيقاف جميع القوانين الاستثنائية، وحلّ الجيش، وحلّ جميع الأجهزة الأمنية والميليشيات المرتبطة بها، وحلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية، ومنع إعادة تشكليها تحت أيّ مُسمّى آخر، وحلّ جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة، وتفويض رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية إلى حين إقرار دستور دائم.
كتبت مقالة بعنوان: «عملية الانتقال: سوريا والدرس العراقي»، بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام بشار الأسد، قلت فيها إن على الإدارة السورية الجديدة أن تتعلم من درس العراق، ومن الفشل في بناء النظام السياسي، وبناء الدولة، وبناء القوات العسكرية والأمنية. لكن الظاهر أن السوريّين لم يتعلّموا منه!
فإلغاء دستور عام 2012، يعني أنه ليس ثمة «نصّ» يحدد طبيعة الصلاحيات والمسؤوليات، وليس ثمة محددات لطبيعة العلاقة بين سلطات الدولة، وليس ثمّة «إطار ناظم» للدولة ككل، وهذا محض عبث! كان يمكن الإبقاء على الدستور مؤقتًا، وتعليق بعض المواد الحاكمة منه، فضلا عن إلغاء القوانين الاستثنائية بشكل محدد ودقيق، وليس بكلام مرسل، على أن يتم ذلك من خلال المجلس التشريعي المؤقت للمرحلة الانتقالية الذي أعلن عنه، إلى حين إقرار دستور دائم.
أما حلّ الجيش والأجهزة الأمنية، فهو تكرار لخطئية حلّ الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، القرار الذي لا يزال العراق يعاني من تبعاته حتى بعد مرور 22 عاما؛ فتحويل عشرات الآلاف من الضباط والمنتسبين المدربين على السلاح إلى عاطلين عن العمل في سياق مجتمع منقسم بحدة، مع وجود البعد الطائفي في تشكيل تلك القوات العسكرية والأمنية.
يعني عمليا، خلق جبهة مضادة، بمعزل عن طبيعة علاقتها بالنظام السابق، سيكون لديها القدرة على التحشيد بالضرورة لا سيما أن ذلك ارتبط بدمج الفصائل المسلحة ذات الطبيعة الطائفية أيضا، لتشكيل قوات مسلحة وأمنية جديدة، وهو ما سينعكس على طبيعة سلوك هذه القوات أولا، وعلى طبيعة تعاطي «الآخرين» غير الممثلين في هاتين المؤسستين، أو الممثلين فيها بشكل صوري دعائي!
أما حلّ الأحزاب، ومنع تشكلها مستقبلا، فهو استنساخ آخر لتجربة الفشل العراقية، وليس بعيدا أن يتبع هذا الحلّ «اجتثاث» لأعضاء تلك الأحزاب، وهو لن يكون اجتثاثًا ذا طبيعة طائفية، وحسب، بسبب الطبيعة الطائفية التي حكمت حزب البعث السوري، بل تحشيد مضاد للبعثيّين المجتثين من الطائفة السنية نفسها. وظاهرة «اجتثاث» الأفكار أثبتت تاريخيا أنها فاشلة بامتياز!
أخيرًا، فإن «تفويض» رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، من دون أي محددات أو التزامات (صحيح أن هذه الفكرة تجنبت مأزق الانتخابات في ظروف غير طبيعية التي كرست فشل الدولة في العراق) وفكرة التفويض نفسها، والتي سبق أن استخدمها (الرئس المصري عبد الفتاح) السيسي، أيضا بعد انقلابه العسكري، تعني عمليا سلطة مطلقة لرجل واحد في تحديد «ممثلي» المجتمع السوري ككل، وفي تشكيل مستقبل دولة بأكملها، وهذا عبث آخر، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة في النهاية.
كان يجب أن يناط تشكيل هذا المجلس التشريعي، بلجنة موسعة، تضمّ معظم القوى المعارضة، المسلحة وغير المسلحة، تحدد الآليات التي تحكم تشكيل هذا المجلس ومهامه وصلاحياته.
وعلى الرغم من العقلانية التي أبداها السيد أحمد الشرع، على الأقل كما أظهره خطابه السياسي. وعدم تحول عمليات الانتقام إلى عمليات ممنهجة وواسعة حتى اللحظة، فما تزال عمليات الإعدام الميداني خارج إطار القانون، وحالات الإخفاء القسري، حالات فردية كما تظهر ذلك الأرقام الواردة من سوريا (وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان لم تزد الحالات الموثقة لهكذا جرائم عم 204 حالة موثقة)، لكن السوريين عموما لم يستفيقوا بعد من صدمة/ نشوة سقوط نظام بشار الأسد.
فالمشكلات في الساحل السوري، وريفيّ حمص وحماة، والمشكلات المتلعقة بالدروز ومآلاتها في سياق التمدد “الإسرائيلي” في جبل الشيخ وريف القنيطرة، والمعضلات المتعلقة بالأكراد و”قَسَد” (قوات سوريا الديموقراطية المسلحة)، لا تزال قائمة ولم تُحل، وهذا يعني أنه ما يزال من المبكر الحكم على تجربة الإدارة الجديدة، بغض النظر عن الدعم العربي الواسع لها، والتعاطي الإيجابي الأميركي والأوروبي معها، لكن القرارات التي صدرت يوم أمس (الأربعاء) تبعث الشكوك حول الرهان على هذه العقلانية، وتفتح المجال واسعا أمام كل إمكانيات الانزلاق الكامل إلى استنساخ تجربة الفشل العراقية!
قبل يومين، وفي استعراض قامت به القوات الأمنية العراقية الرسمية، رسم العلم السوري إلى جانب العلمين الأميركي و”الإسرائيلي” على الأسفلت، لتدوسه أقدام تلك القوات. بالتأكيد لم يكن هناك قرار رسمي من رئيس مجلس الوزراء العراقي، أو من وزير الداخلية، بهكذا تصرف شائن.
لكن الشاهد هنا، هو تصرف القوات العسكرية والأمنية التي تشكلت بمعايير غير مهنية، وظلت مرتبطة بمرجعياتها الحزبية والعقائدية، وتتلقى أوامرها من جهات لا علاقة لها بمراجعها الرسمية، وهذا كان نتيجة مباشرة لقرارات دمج الميليشيات في المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية، ونتيجة مباشرة لتطييفها، وكنا نتمنى أن يتعلم السوريّون هذا الدرس ليتجنّبوه!