تربية وثقافة

رواية “سوق الملح” لـ”عمر سعيد”.. كملح يوضع على جراح الأمة..

نهى عاصم/ مصر

 

خاص “المدارنت”..

استوقفني الغلاف طويلًا وظللت أنظر إلى الوجوه المنهكة والحزينة وحينما قرأت الإهداء شعرت وكأن ربما وضع ملح هذا السوق على جراح كثيرة لتلك الوجوه..

“يا علي الوطن ليس قبيلة تدرج رقمك على لائحة أفرادها في النائبات، ولا طائفة تغذيك باسمها لتنضح كرهًا للآخرين، ولا رمزًا يعلو أسطح المباني ليوجهك صوب العزلة.. الوطن مساحة من الأمل والحب، والجراح والآلام، تجعلك مشدودًا لوجوه كالحة، تركت فوقها عوامل القهر ملامحا تجعلك تنتمي إليها قبل أن تغوص تحت جلدها أو خلف عيونها، ودون أن تأبه لتاريخها أو أي وجهة تقصد”..
يالها من بداية جاذبة مشوقة يسطرها لنا البطل على لسان والده والتي دونها في دفتر مذكراته بعدما أصغى إليه قبل سفره إلى أستراليا ليدرس في جامعاتها..

ولأن علي من البدون-ها قد عدت ثانية لرواية عن البدون بعد رواية السنعوسي الرائعة “ساق البامبو”- ولا أوراق ثبوتية لديه فقد تنازلت له أخته عن أوراق ابنها نواف الذي كان في مثل عمره-وله أوراق ثبوتية- وكان معاقًا فتخلف عن الدراسة ومات فأكمل الثانوية ونجح بتفوق وبمنحة دراسية لأستراليا للدراسة فقهرته أخته حين قالت له:”الف مبروك حبيبي نواف”..

يعيش علي -علاوة على عدم وجود هوية له-في قاع المدينة في بيت من صفيح مع أسرته، وكان في كثير من الأحيان يقوم من على مائدة الطعام مدعيًا الشبع ليجد اخوته ما يأكلونه، فيدرك الأب هذا وتبكي عيناه..

ماجد وجوهرة، رويضان وشيماء، أربعة جمعهم الحب وعانوا ما عانوه بسبب تهمتهم التي لا يدرون ما من سببها: “أنهم من البدون”..
جميعهما حلموا بهوية لهم ولأبنائهم وباستبدال “مخيمهم الصفيحي الذي ابتلعهم منذ عقود كما يقول الأديب” لبيوت مبنية يعيشون فيها بكرامة..
أي ظلم هذا الذي وقع على رويضان وشيماء؟!
وأي انحدار وجور بل وإجرام الذي حدث مع ماجد وجوهرة؟!

يحلم ماجد باقتناء سوار تعود قصته وتاريخه إلى زنجبار منذ عقود طويلة، هذا السوار لربما يحقن دماء القبائل ويعيد إليهم هويتهم ولكن الشيخ العود نصح علي قائلًا أن هذا تاريخ عليهم نسيانه..

لغة الكاتب جميلة ولها صورا بلاغية مرهفة وشاعرية، فها هو يقول عن الحرية:
“أجمل الحريات حرية تجعلك تمشي طريقها وحيدًا، فيما يطلق عليك من تأخر عنك النار في ظهرك، ويزرع من سبقك الألغام في دربك، وأنت تدرك أن الدرب صعبة ولكن الوصول حتمي..
كما أن للأديب روح وسمات فلسفية تداخلت بين سطور الرواية بإسلوب شيق وسهل..
وحينما نأخذ في القراءة يحملنا الكاتب إلى عبق التاريخ في عدة اماكن ومناحي ..

المكان في الرواية له مساحة جيدة ومهمة للغاية، إذ يصف الكاتب الأماكن بصورة بالغة الدقة والجمال.. حتى وهو يصف مخيمات الصفيح كان يجد فيها الجمال ولو في سكانه..
وما أروع المقارنة التي وصفها لمكان مؤتمر التجميل الذي يحضره علي في أستراليا ومقارنته احتياجات النساء من عمليات تجميل وأسعارها باحتياجات وعوز نساء مخيم الصفيح..
كما أن وصف الأماكن الطبيعية والجبال في سلطنة عمان جاء رائعًا..
جعلني أدخل إلى جوجل لمشاهدة ومعرفة معلومات عن كمزار مثلًا..
وجاء وصفه لليمن شيقًا ولسعير الحرب فيها وهروب لامبير وماجد منها ..
وما أجمل وصفه لأم جو المرأة التي قاومت الحرب الأهلية اللبنانية بسلاح الحب والحنان..
وكذلك وصفه لفلسطين الحبيبة ومدن احتلها غاشم، فهجرها الناس مضطرين..

يضع لنا الكاتب خلاصة فكرة وبعض قراءاته والكتب الهامة التي قرأها من خلال الرواية بصورة لطيفة .. وما أجمل كتابات الرقاش التي عشت بين سطورها وقرأتها عدة مرات..

يتحدث الأديب عن الملح في عدة مواضع في عمله، فمثلًا يضع لنا وصفًا جميلًا لسوق الملح بصنعاء، أو يحدثنا عن القوافل التي كانت تنقل الملح في روما القديمة، أو يقول عن اختفاء مجموعة نصبت على العديد من أهل البدون:”فكأن كل ما كان بات كمشة ملح وضعت في بركة ماء، واختفت”وغير ذلك.

حقًا هذه الرواية كملح يوضع على جراح الأمة ..
وأختم قراءتي للرواية بملح تساقط علي إذ يقول الأديب:
“إن أشد ما يسيء إلى جغرافيا العاجزين هو التاريخ، فكلما حاولت الجغرافيا؛ أن تتألق وتزدهي للغد الحالم، شدها التاريخ إلى أزقة الكوابيس التي لا تنتهي، وأقعدها عن زهوها فوق حطام لا ينفكون عن رفعه، لينهار عليهم من جديد”.

شكرًا للأديب عمر سعيد على هذه الرواية الرائعة..

 

=======================
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى