سُنّة لبنان بين الأمس واليوم!.. الجزء (1)
خاص “المدارنت”..
انطلاقا من فكرة التفضيل الإلهي إلى بني البشر، لقوله تعالى: “… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ..”.
فدرجة المفاضلة بين الناس، وبالعموم، إنما تنحصر في مرتبة التقوى، وهذا يعني، تجاوز لكل ما يتداول به أهل العلم والسياسة والاجتماع، من مصطلحات تهدف إلى زرع الفتن والتنازع والخصام بين أبناء الوطن الواحد، وبين أبناء الامة الواحدة، حيث أنها كمصطلحات، أخذت عمقها التقسيمي، طولا وعرضا، أفقيا وعاموديا، إلى أن أصبحت كلمات تتناقلها أطفالنا، على مستوى الوطن والامة، وهم يجهلون أبعاد معانيها وأهدافها. ولكن مع جوهر أثرها فقد تركت بصمات العصبية الحاقدة، وسلبياتها الانفعالية بين الأجيال الصاعدة.
مصطلحات لا تمت إلى الحقيقة بشيء من معنى الاديان، ولا لالى جوهر تشريعاتها، من دلائل ولا برهان. وقد تمثلت فيما يتداول بها، كالطائفية والمذهبية، والحقيقة إنما تتأصّل في النصّ القرآني الذي يؤكد على كل من أمن وأخذ بأي رسالة من الرسائل السماوية الإلهية، فهو على ملة الاسلام، لأن الدين عند الله الإسلام.
وعليه، البداهة تظهر الناس على فطرة الله تعالى، فلا طوائف ولا مذاهب، تخرج من صلب الاديان، إنما ينقسم الناس، حسب عباداتهم ومعاملاتهم، إلى مرتبتين من الايمان: فالملتزم بامر الله تعالى ونهيه، وتحقيق تشريعه، قولا وعملا، في العبادات والمعاملات، فأولئك هم: المتقون، الذين توزعوا، كطوائف على كافة اعتقاداتهم السماوية، وتوزعوا، ايضا، على كافة الاجتهادات المذهبية. أما فيما يخصّ المرتبة الثانية، والتي تناقض وتقابل المرتبة الاولى، أي أنها تجاوز لحدود الله، مما فطر خلقه عليه،
تحت رايات وشعارات واهية مصللة، لا يخافون في الله، لومة لائم، والتي تعمل في تحريف التشريع خدمة لمصالحها وأهدافها، وتتمثل هذه الفئة بمرتبة المنافقين، وما اكثرهم اليوم.
الإعتقاد الشائع لأهل السنة. انهم فئة تحمل لواء تحقق المشاريع العمرانية والتقدم العلمي، نحو بناء دولة الإنسان.
ويُحمٍلون أنفسهم مسؤولية ذلك، في إعادة حال الخراب إلى ما كان عليه من اعمار، وربما عملوا إلى الافضل، على اعتقاد انهم (الصبي وأمه) على مستوى الوطن والامة، وعلى هذا المعنى، فإنهم يحملون أنفسهم أعباء التضحية والتنازل الشخصي من أجل إعادة بناء الوطن، وإقامة الدولة، بمفهومها الدستوري وابعادها المدنية الإنسانية. كما ويرممون ما خلفته فئة الأوباش المنافقين خلال أزمة المحن والنكبات، والموزعين ايضا، على كافة الفئات اللبنانية، طوائف ومذاهب، انهم طفيليون متطفلون، والذين يمثلون الأكثر، توزيعا وانتشارا، على الساحة اللبنانية والعربية، ايضا.
لا يمكن تصور المجتمع السياسي اللبناني، من دون أهل السنة، الذين تعرضوا إلى محنة سياسية كبيرة وقاسية، بسبب تلك اعتقاداتهم السائدة الشائعة، كما ولا يمكن تصور ذلك على كافة المستويات، داخليا وخارجيا، فلديهم هامش واسع من التمدد الوجودي، يطال العمق العربي الشاسع.
ولو عدنا بالزمن إلى بداية نزاعات وخصومات، خمسينات وستينات القرن الماضي، وتأملنا بعض ممارسات ومواقف رجالات أهل السنة، من آل الصلح، ورشيد كرامي، وصائب سلام، وغيرهم.. وغيرهم، والتي كانت على دراية منفتحة واعية، تستند على فكرة (التفهّم والتفاهم) وتحقيق شعار (لبنان واحد لا لبنانان)، حيث الدلالة تختصر فكرة: عدم الاختلاف وعدم التراجع والاكتفاء. وهكذا أكدت رجالات أهل السنة على مواقف ثابتة في ضرورة وحتمية الوجودية الوطنية اللبنانية والعربية، على السواء.
بلا شك، فقد أظهرت مواقف رجالات أهل السُنّة في لبنان، على انهم فئة اجتماعية، معتبرة الوجود، ولها شأنها العملي والمعرفي، فعملت وباصرار، على بناء مجتمع سياسي لبناني له لحمته الوطنية التي تستعصي على الهوان والانقسام، بحيث يجتمع من حولها اللبنانيون، في الراحة والشدة، ويذهب جميعا إلى خلق كل تقدم يضمن الأمن والأمان لمجتمعها الوطني ولمحيطها العربي، أيضا.
لقد تجسد ذلك وتحقق مع رجالات أهل السُنّة في بناء حداثة المدن ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، حيث مضى تحققها باتجاه جميع أبناء الوطن، من أجل بناء الدولة الحديثة، وتثبيت استقلالها الحر الكريم، كما توجهت لتعمل مع الاخوة العرب، على أسس ومعادلات حضارية متقدمة، انطلاقا من الانتماء الواحد والمصير الواحد. لأن حياة العرب الذاتية، إنما ترتبط بمنطق قيام الدولة، فكرة وتطبيقا، هذا المنطق الذي تطلبه وتعمل على تحقيقه الكثرة الكاثرة من اللبنانيين، والتي تريد حق الاستقرار والأعمار، ونطمح ايضا، إلى كل تقدم وتطور وازدهار، إقليميا ودوليا.
لقد أكد أهل السُنّة، في عيشهم المشترك مع باقي الطوائف والمذاهب، ونخصّ المسيحيّين منهم، حيث المشاركة العملية التامة، لصيانة الدولة وحفظ دستورها، وكانوا متماسكين سويًا، في صنع استقلالها واداراتها. ولكن الخلاف إنما يتمحور حول مفهوم الدولة ومعنى كيفية الولاء لها. هذا منذ القرن الماضي، ومنذ ايام الوجود العربي الفلسطيني المسلح. فالمسلمون وقفوا إلى جانب المقاومة الفلسطينية، والمسيحيون تمسّكوا بالجيش اللبناني، وافتعلوا الحرب الاهلية اللبنانية، تمريرا لمصالح دول إقليمية ودولية، وتحقيق هدف القضاء على المقاومة الفلسطينية، حيث لم يتم ذلك، فكان أن اخرجوها من لبنان، وقد حصل ذلك بعد تلك المفارقة التحويلية، مع دخول الجيش السوري، كقوة ردع عربية، ذلك الجيش الذي تفرد بالسيطرة المحكمة وتدخلاته المطبقة على السياسة اللبنانية، وتحكمه في بناء وتكوين المؤسسات والإدارات الدستورية وتشكيلاتها.
زد على ذلك، إنه سمح للإرانيين بإنشاء حزب موالي لهم، كبديل للجيش اللبناني، الذي مُنِع من دخول الجنوب اللبناني. فكان “حزب الله”.
رغم كل ذلك، فقد ثبت أهل السُنّة على موقفهم خلف الدولة اللبنانية ومع جيشها، أما علاقتها مع المقاومة الفلسطينية، إنما مرتبطة بقرارات الجامعة العربية، ثم القرارات الدولية.
نقدم بعض الأوجه الوجودية لأهل السُنّة في الساحة اللبنانية، وقد تمثل ذلك، فيما احيته “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية”، فحملت لواء العرب والاسلام، ونشرت التربية والتعليم على كل بقعة لبنانية، مهما بعُدَت من مسافات، وامنت الحاجات اللازمة، للمدارس والمساجد، حيث افتتحت اعمالها الخيرية، وتركت بصماتها البنيوية التكوينية منذ عام (1878)، ولا تزال مستمرة في البذل والعطاء، لقد أظهرت باعمالها النهضوية التقدمية، أن الوطن لبنان، لا يمكنه التحليق إلا بجناحيه، من حيث أنه يفرض عمل توازن حركي بين الذات والهدف، فاولا يخلق توازن حركة الجناحين، فتستقيم الذات (الطائر) الذي مع استقالته، يعكس ضرورة توازن التفاهم والانسجام، داخل حركة الوطن، في نهوضه واستقراره وتقدمه، مما يلزم ضرورة الاجتماع والتفهّم والتفاهم، وليس الخصام والافتراق والقطيعة.
إن سبل نجاح التقدم والنهوض إنما يتطلب تحقق مسألتين أو قاعدتين اساسيتين:
اولها: أخلاقية المبادىء والأهداف. وثانيها: أخلاقية المسؤولية في حملها وتحقيق أهدافها. وننوه إلى أن الجدل مترابط متماسك بين المبادىء التي تأخذنا إلى وجوب إتقان السبل ووسائل التنفيذ.
يعني أن هذه الفكرة إنما تتمحور حول الوجود الإنساني، وتحقق نتائج إنسانيته البحتة، التي تذهب بك إلى ضرورة منهج العقيدة الروحية، وابعادها القومية التي تضمن استمرار تحقق الكرامة الانسانية، والفئة المدركة القادرة على تحقيق ذلك، إنما تتمثل بالمُتّقين، هذه المرتبة الايمانية التي قد أعلنتها بداية، والتي ينضوي تحت لواءها أفراد مؤمنين، من جميع الأجناس والأصناف، والطوائف والمذاهب، وما دون ذلك فأولئك هم المنافقون.