سُنّة لبنان بين الأمس واليوم! الجزء (2) والأخير..
خاص “المدارنت”..
إن نخبة أهل السُنة، الذين هم على كفاءات علمية متخصصة، على كافة المستويات الحياتية والوطنية، إضافة لرجالاتهم القادة، لم يُسمح لهم تولّي مسؤوليات الشأن العام اللبناني، إنما استبعدوا كليا، وفسح المجال لأن يتزعم ابطال الحرب الاهلية اللبنانية، ذوو الصبغة العصبية، الطائفية والمذهبية، واعتلوا المناصب الإدارية الرسمية، وتربعوا فوق رقاب العباد.
هذا ما تم اختاره من قبل السوري المتصرف بأمر حال اللبنانيين، كمفوض سامي من قبل الدول العربية والعالمية. والسبب في افتعال الحرب الاهلية ثم إيقافها، إنما يكمن في التكالب والتغالب، الإقليمي والدولي، من أجل مد جسور السيطرة وحفظ المصالح الخاصة، داخل المنطقة، فكان ما ارادوه، من خلال تنصيب أولائك الزعماء المتمردين، والخارجين عن القانون، والذين يمثلون ما يسمى النخب الحزبية أو العسكرية، والذين ترأسوا أحزابًا ميليشياوية مسلحة، قاتلوا بها بعضهم البعض، وشكلوا بذلك أمرا واقعيا جديدا على الساحة اللبنانية.
هذه الحالة الميليشياوية الواقعية، أخرجت أهل السُنّة من تلك المعادلة السياسية المعقدة، كما ابعدتهم عن ذلك التقسيم، الطائفي والمذهبي، لأنهم لم يكونوا أصحاب احزاب مسلحة، ولا يمثلون قوة ميليشياوية. إنه واقع مفروض ومرفوض سنّيا، مما انتج هجرة، قسرية وارادية، لمعظم رجالاتهم الوطنية القادة.
وهكذا برزت الحصيلة الاقليمية متساوية، من حيث مصير لبنان، المشابه لمصير جيرانه واشقاءه العرب، ونخصّ العراق وسوريا ثم اليمن، وصولا إلى سائر الدول العربية. هذا الواقع المزري والفارغ من كل القيم، قد أفرز هيمنة سياسية دينية، وغلبة همجية، تجلت بما تحمله من ثقافة أنتجت خراب المدن والعمران، وكما يقال: “إن حبة الفاكهة الرديئة العفنة تتلف ما الصندوق”. فلا نأمل من ميليشيات مسلحة أن تصنع عجائب حضارة، ولا معجزة إصلاح انساني. إنما مصنعها الخراب والدمار ، لكل من الحجر والبشر.
هذه الحالة الواقعية فرضت على الرجالات القادة سبيل التراجع والانكفاء، ثم الهجرة أو التفرد بالعودة إلى زمن العقلاء الأصحاء، أما ضعاف النفوس والمترددون، فمصيرهم اتجه للالتحاق بأولئك المسيطرين المهيمنين، الذي أوشك زمنهم على الأفول والانتهاء، ولكن آثارهم التدميرية ستبقى طويلا، ثم تتحول حكايات الأجيال. والسبب أن منطق الدولة هو السائد، حاليا، لدى الكثرة الكاثرة من اللبنانيين، واهل السُنّة ،جزء من هذه الكثرة اللبنانية التي تريد إعادة بناء وتكوين المؤسسات الدستورية، على أسس من اجتماع الكلمة، واتحاد الارادة الحرة الواعية.
لا شك أن حال أهل السنة، كان ولا يزال، في تفكك وقلق وضياع وهذا الأمر ليس بالغريب العجيب، لأنهم يمثلون — في الإعتقاد والمعتقد — ما هو أشمل واكمل وأوسع واعظم، من أن تختصره طائفة أو مذهب، انهم يمثلون قيم التقوى والفضيلة، ومن جهة اختيار أفراد المناصب الإدارية والمراتب الرسمية، إنما يفرضها الدستور، إضافة لما يؤمن لاؤلاءك المهيمنين من مكاسب ومصالح مشتركة. بمعنى أن أهل السنة ،هم أفراد كل منهما يمثل نفسه وشخصه، لأن المفهوم العام لدلالة التمثيل ،لدى أهل السنة، إنما هو أمر عارض ودخيل على أبعاد الإنتاج العقلي لهم، إذ كل بالغ فهو مكلف، ضمن الحدود والاحكام الإلهية، يعني لا إلزامية ولا تبعية،بين الافراد، إنما يتجلى الفرض لديهم بضرورة تحقيق المصلحة العامة. أنها حقيقة شرعية تشريعية، يجب بيان حقوق المسؤولية وواجباتها ،وتوضيحها لعموم أهل السنة، حتى لا تقع بفخ العصبية الحاقدة البغيضة.
وعلى هذه الحال، فإن التمثيل النيابي لأهل السُنّة، لا يشكل سوى أعداد موزعة على مواقع سياسية، متنوعة وغير متجانسة، لا في التحالفات ولا في التكتلات، مما لا يسمح لهم بخلق أكثرية قادرة على اتخاذ القرارات الوطنية الحاسمة، ونخصّ موقع رئاسة الحكومة، على سبيل المثال، إنما مصالح الدول المؤثرة المهيمنة، تفرض ذلك.
من جهة ثانية، هل يستطيع مفتي الجمهورية اللبنانية تسميته وفرضه؟ كونه يمثل ما يمثل! ولكنه متهالك الاوصال والمواقف. والموقف سيّان لدى البطريركية المارونية — المرجعية المالكة حق الأخذ بقراراتها– التي فشلت لدى رعيتها على جمع الكلمة ووحدة الارادة، على التوافق والتفاهم.
لا شك أن واقع حال الضعف والتشرذم والضياع لدى أهل السُنّة، واضح البيان، على كافة الصعد، ونخصّ السياسي منه، حتى إنه أفقر من أن يدفعوا عنهم ويبعدوا ،أمر الخضوع والانصياع لمن يملك قوة تقرير المصير، إقليميا ودوليا، قائلا لهم: الأمر لي، في اختيار رئيس الحكومة أو أي شخصية سُنّية بأي منصب كان، وبالأخصّ، حاليا، فيما ستعكسه صفقات وتسويات ما بعد حرب غزة وجنوب لبنان، والتي ستكرس واقعا إقليميا جديدا يصعب اختراقه.
نلفت النظر إلى أن أهل السُنّة وحقيقة موقفهم التاريخي والسياسي والوجداني، إنما يصب مصب القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية. والحال مع اندلاع عملية طوفان الاقصى(7 ت1 /2023). وانخراط “حزب الله”، مساندا على جبهة الجنوب اللبناني، فقد ارتفعت حمية أهل السُنّة في لبنان، تعاطفا وتضامنا، مما دفع انخراط “الجماعة الإسلامية” (الإخوان المسلمين) في العمل العسكري، مندفعة لشدّ العصب السنّي، ولاجتذاب بعض المواقف الداخلية والخارجية، مؤكدة استغلال غياب الفعالية السياسية على الساحة اللبنانية.
لذلك توجهت حيث الجبهة الجنوبية العسكرية مفتوحة امامها، هذا الأمر فرض عليها نوعا من عملية التفاهم والتنسيق مع صاحب قرار المشاركة في العمليات العسكرية، وصاحب قوة الأمر الواقع على الساحة الجنوبية، فكانت المصلحة مشتركة مع “حزب الله”، إضافة لذلك، فقد اتجهت “الجماعة الإسلامية”، محاولة، تحقيق المزيد من التاييد الشعبي لدى أهل السُنّة، الذي هو بعيد المنال لديهم (أهل السُنّة) ومن ناحية اخرى، عدم امتلاك “الجماعة الإسلامية” قدرة التقديمات الإنمائية والاجتماعية والاقتصادية. اما من طرف “حزب الله”، فإنه يذهب بمصالحه إلى مزيد من الكسب السنّي، المؤيد والداعم لموقف موكلته إيران.
لا شك أن انخراط “الجماعة الإسلامية” في العمل العسكري، هو دليل تقاربها مع المشروع الإيراني، وتأييدها لـ”حزب الله” (وكيل إيران على الساحة العربية)، المناصر والمساند لحركة “حماس” السنّية. هذا الوضع القائم يظهر مواقف “الجماعة الإسلامية” قد توزعت على ثلاثة مواقف متعارضة داخليا، وهي:
١ — الموقف التقليدي يعارض “حزب الله”
٢ — الموقف المتقارب والمتفاهم مع “حزب الله”
٣ — الموقف المتجانس والمنسجم والمحسوب والمندمج مع حركة “حماس”.
رغم كل ذلك، فإن “حزب الله” يعمل وبفاعلية حثيثة لكسب المزيد من المواقف العلنية على الساحة السنية، مما دفعه إلى خلق تحالفات مناطقية، ثم التوجه إلى دعم كامل من أجل فوز العديد من المفتين السنيين في بعض المناطق اللبنانية، مثال عكار والبقاع وايضا طرابلس.
أهل السُنّة، كغيرهم من اللبنانيين،لديهم مشكلات عديدة، وعلى كافة المستويات الحياتية، منها:
1/ المشكلة الاساسية، القديمة الجديدة، إنما تكمن في عدم قدرتهم للتفاهم على تشكيل رؤية سياسية واضحة المعالم تقود المرحلة الراهنة إلى بر الأمان. من أسباب ذلك، المواقف السياسية الحريرية وانعكاساتها السلبية.
2/ غياب الأفق السياسي العام، الذي أدى الى عدم قدرة أي قوة سياسية سنية ملىء الفراغ القائم. والسبب في العقيدة والاعتقاد التي تأخذ أهلها إلى حق الاختيار وما يبنى عليه من مواقف، وهذا أمر الهي الذي ترك الإنسان له حق الاختيار في اعظم مسألة ايمانية، تتمثل بين الإيمان والكفر.
إنه جوهر ومكمن المنهج الإسلامي الإنساني، كدليل برهاني على يوم الاخرة، وما يحمله من حساب، كما أنه يمثل صورة للشمولية والكلية والعالمية، فهو الإنسانية الحقة..