طفل في زورق الموت…
كتبت إبتسام حمّود/ لبنان
خاص “المدارنت”..
.. انطلقت رحلة الموت عند الرابعة فجراً. كان الظلام دامساً، وبرودة محببة تلامس الأجساد. كنا كثر، نسير في طريق مهجورة، في وسط غابة موحشة، قبل الوصول إلى البحر، والانطلاق الى وجهتنا، وصلنا منهكين.
ركبنا المركب المطاطي، إتكلنا على الله، ومضى فينا المركب هادئاً، كل شئ حولنا كان يوحي بالسكينة، الى أن أصبحنا في عرض البحر، لا شئ حولنا سوى المياه، وأشعة الشمس التي انعكست على المياه، كانعكاسها على مرآة، أصبحت حارقة.
لا أنكر إنني شعرت في هذه اللحظات بالقلق، وتوجست مِمّا ينتظرنا، وما ستؤول إليه الأمور، ما هي إلا لحظات، بدأ الموج يلطم المركب بقوة، وصار يتأرجح فينا، بدأت الأصوات بالارتفاع خوفاً، كيف لا؟! ونحن أكثر من ستين راكبًا، على متن زورق صغير، صُنع ليتّسع لخمسة أشخاص على الأكثر، ما هي إلا دقائق معدودة، انقلب المركب، سقطنا في المياه كالعصافير، حاولنا في البداية أن نبقى على شكل مجموعة، لكن الأمواج منعت ذلك، ففرقتنا، وأصبحنا نبتعد عن بعضنا شيئاً فشيئاً، الى أن وجدت نفسي والى جانبي رجل وزوجته تحمل طفلاً رضيعاً، تشبثنا ببعضنا البعض، وكل واحد يطمئن الآخر، ويشدّ من عزيمته، ويحثّه على الصمود، على أمل أن تهدأ الأمواج، أو تمر سفينة ما تنقذنا.
لا أذكر كم من الوقت مرّ علينا، فقد ازداد حريق أشعة الشمس، وكأنها تعاقبنا على فعلتنا، بدأ الجوع والعطش يبطشان بنا، وصراخ الطفل لم يهدأ، وأضحى مخيفاً وموجعاً، أمه تحمله بثبات، وكأنها لا تسمع صوته.
مرّ وقت طويل، بدأت أطرافي تبرد وتتعب، وبدأ نفسي يضيق، وصارت أحداث حياتي السابقة تحضر أمامي، الحدث تلو الآخر، توقفت عند والدتي، المرأة التي ضحت بشبابها وصحتها من أجلي، حتى بلغت سن الشباب، طلبت منها التوقف عن العمل، علّها ترتاح، وعلّني أعوّضها عن سنوات القهر التي عاشتها، بعد وفاة والدي، لكن الراحة لم تُكتب لها، لأن مرضاً خبيثاً سكنها، وراح يأكل بدنها وصحتها، يتغذى على ما تبقى منها، كانت تعبة، ذلك اليوم، والعلاج باهظ الثمن، وأكبر من جيبي ومحفظتي.
في ذلك اليوم، قررتُ أن أغادر وطني البائس والظالم، واللجوء الى وطن غريب، لا يمت لي بصلة، ولا يشبهني، فقط من أجل أن أنتشل أمي من قهرها، وأجعلها تعيش ما تبقى لها بكرامة، صورة أمي، وآلامها، وابتسامتها الحزينة لحظة الوداع، شحنتني بالقوة، بعد أن كدت أفقدها.
عدت الى الواقع على صراخ المرأة، وهي تمنع زوجها من الاستسلام للبحر، تحثه على المقاومة والصمود، وحاولت أن تحمله، لكن تعبه ويأسه كانا أقوى من قدرتها على إنقاذه، انزلق بين نقاط الميه، وغاب وسط فقاعات من الهواء.
شارفت الشمس على المغيب، والبرودة زادت حدتها، والخوف ازداد، والترقب وبكاء المرأة توقف، حتى صراخ الطفل الرضيع توقف، ومع حلول الظلام، لاح لنا من البعيد ضوء خافت، نجهل ماهيته، استبشرتُ، خيراً، حاولت أن أنقل البشرى الى رفيقتي، لتعيد لها ما تيسر من الطاقة، لكنها لم تكترث، كانت باردة، لا مبالية، لا كلام ولا تعبير، فجأة، رفعت طفلها ووضعته بين يديّ، وقالت: أرجوك لا تتركيه وحيداً، وأخبريه إنني أحبه، وانزلقت هي الأخرى، وغابت وسط فقاعاتها، وانا غرقت وسط دموعي، بكيت كما كان يبكي صغيرها، بكيت بصوت عال، وصرخت، واستنجدت بربّ العالمين، رجوته أن يأخذ بيدي ويمدني بالقوة، لأصل إن لم يكن من أجلي، فمن أجل أم، تقيم الليالي خوفاً عليّ، وطفل رمته الظروف في عرض البحر، بين براثن الموت وليس له إلا الله.
استجعت ما بقي عندي من قوة، وضعت الطفل اليتيم على أكتافي متجاهلا بكاؤه الذي صار مؤنسا ودليلا على الحياة، سبحت باتجاه ذلك الضوء، رائحة الموت زكمت انفي، وضيقت صدري، وضغط المياه انهكني، والخوف والقلق ما ينتظرني..
أمي وابتهالاتها، وطفل أنا أمله في الحياة.. رفاقي سبحوا، ومع كل حركة، اصرخ يا الله، البرودة تلسعني بلا رحمة، شعرت بخدر في أطرافي، حتى إني كنت أشعر بقطع لحم تلتصق برجلي، كنت اتعثر بالجثث، وكنت ادرك أنه وبأيّ لحظة أتوقف فيها، ستكون نهايتي ونهاية الطفل معي..
مر الوقت ثقيلاً بطيئاً، بدأ الضوء يقترب، والأمل يكبر، وبدأت استعيد قوتي، كيف لا وأنا اقترب من حافة الحياة، لكن هذه القوة لم تدم طويلاً، سمعت صوت صفارة من بعيد، حركتي باتت بطيئة، وأطرافي تجمدت، رأيت ضوءاً قويًا ومرتفعًا، أنار ما حولي، ووسطه ابتسامة أمي..
أغمضت عينيّ لاستيقظ، وانا ممدد على سرير دافئ، لا أشعر بأطرافي، وكل ما حولي غريب.. الستائر والاجهزة والاضواء، ايقنت إنني وصلت الى برّ الأمان، لا أعرف كيف ولا بأيّ مكان، المهم إنني وصلت، فرحت كثيرا، وتذكرت الطفل، هممت محاولًا الوقوف، والذهاب من أجل البحث عنه، فجأة، دخلت ممرضة تحمله بين يديها.. وضعته على صدري، كان دافئا جداً، هادئاً ومطمئناً، أحتضنته وغمرته بيديّ، ابتسمت وغفوت.