تربية وثقافة

“عالبركِة “.. الخبز المعجون بالحبّ والألم..!

د. محمود المسلماني/ لبنان
خاص “المدارنت”..
أرخى الليل الخريفيّ عباءته السوداء على الأكواخ الترابية لـ(بلدة) “الفاكهة”، وكان أهل القرية قد أووا الى منازلهم، بعد أن ألقوا خلفهم أتعاب نهارهم، في مزاولة أعمال الفلاحة وغيرها.
أمّا “بو برهيم”، الذي صحب المحراث في حقل “الغربي” طوال نهاره، فقد عاد الى منزله بمعدةٍ خاوية، رغم أنّ زوّادة “أم برهيم” كانت غنيّة بمحتوياتها بما لذّ من الطعام لديه.
كان جائعا” ويعلم أنّ دابّتيه اللتين جرّتا المحراث طوال النهار كانتا على جوع مماثل؛ فما أن بلغ داره حتى كانت “أم برهيم” تلاقيه الى الباب، تسبقها تحيّتها المعتادة “العوافي” .
لكنّ الرجل الذي أرهقه جريه خلف المحراث وخواء معدته، لم يكن لديه ما يجيب به سوى ذلك التجهّم الذي يعلو وجهه مقروناً بنبرته الآمرة:
“خدي هالدواب حطّيلهن تبن وشعير، وتعاي حطّيلنا عشا”.
… وعادت من دون إبطاء، وهي تحمل “صدر” الطعام ، وعليه الخبز “الملفّح” في طبق واسع هو قوام عشاء الأسرة هذا المساء .
كان وعاء الخبز قد فرغ من محتوياته، ولم يبق فيه سوى بعض ارغفة يابسة، عمدت “أم برهيم ” الى تطريتها بالماء وتكسيرها الى قطع صغيرة، تُقلى مع البصل؛ فتجد فيها الأسرة ما لا تنكره ذائقتها من طعام.
تناولت الأسرة طعامها، وانفرجت أسارير “بو برهيم”، وقد زايله الجوع والتعب، فانصرف يحدّث زوجته بما يشغله من هموم الحرث والزرع؛ فهو يخشى أن يداهمه مطر تشرين قبل أن يكون قد أكمل حراثة التربة وزراعتها.
“والله يا سعدى ما عمفكّ الفدّان لغياب الشمس. بدّي لحّق. الدنيا عشتا”.
ويطلّ “بو سعيد” يحمل حكاياته الشيّقة، فتتهلّل وجوه العائلة، وتعلو صيحات صغارها فرحةً صاخبة.
يتربّع الرجل بجوار الموقد، وتحضر ضيافته من التين المجفّف و”القضامي”، و”(الحمّص مملّحاً ومحمّصاً في محامص خاصة) والزبيب.
ويتوجّه الى جاره “بو برهيم”، بحديث يتناول شؤون العمل والحياة في تفاصيلها وشواغلها المختلفة.
لكنّ صبر الصبية على ما لا يعنيهم من حديث الرجلين لم يكن ليطول، فكان إصرارهم الصاخب على المباشرة بالحكاية؛ وهو ما جعل “بو سعيد” يفتتح بقوله:
” كان يا ما كان بقديم الزمان…”.
فإذا الصبية في صمت تامّ: عيون شاخصة، وآذان تصيخ السمع، وقلوب تتفاعل ومجريات الحكاية متوقّدة العواطف والأحاسيس، حتى إذا بلغت رحلة الخيال المحلّق في عالم الاسطورة ختامها، وانتهى به القول:
“… وهونيك دشّرناهن (تركناهن) و”جينا”.|

كان النعاس قد بدأ يدبّ في عيون الصغار، فنهض “بو سعيد ” يودّع جيرانه “تمسّوا بالخير “، ويغادر.
لم يكن مكوث الساهرين بعد ذلك طويلاً، فقد التحق الأب والابناء والجدّة بفرشهم مستسلمين لنوم عميق؛ لكنّ سهرة “أم برهيم” لم تكن قد بلغت نهايتها بعد، فما انتهت من تمشيط وغزل ما بيدها من الصوف، حتى عمدت الى إعداد العجنة لخبزها مع صباح الغد؛ فـ”بو برهيم” سيمضي مع الشمس الى الحقل، فليس أقلّه أن يتناول قبل انطلاقه” طلميّة، أو “طُلميتين” مع الزعتر البلديّ اللذيذ، وأن تضمّ زوّادته بعض أرغفة التنّور الطازجة.
أحضرت المعجن، ألقت الطحين، كفتت الماء، وضعت الملح والخميرة، شمّرت عن زندين ناحلين، ثمّ شرعت تخلط وتعجن الى أن بات العجين جاهزاً، فتركته الى صباح الغد ليكتمل اختماره تمهيدا” لموعده مع التنّور.
مع طلائع الصباح الاولى، نهضت “أم برهيم،” توقد التنّور بما اختزن لديهم من حطب مقتطع من جذوع وأغصان أشجارهم اليابسة. أشعلت هذه الأحطاب، فشبّت نارها تلفح جوف التنّور بلهيبها المتصاعد. وانتظرت ريثما يخمد اللهب، وتبدأ عملية الخبز.
حملت “أم برهيم” وعاء العجين، وانطلقت وحماتها الى التنّور حيث باشرتا العمل: الجدّة تقرّص العجين وتدفعه ملتوتاً بالطحين الى إلى الأم التي ترقّه ثمّ تلوّحه بيديها قليلاً، وتلقيه على “الكارة” لتضعه مكانه في جوف التنّور، ثمّ تنتشله عندما يشوى، وقد فاحت منه رائحة الخبز الشهيّة.
كانت الساعة الباطنيّة لـ”بو برهيم”، تنبّهه الى الإستيقاظ من رقاده، فينهض يغسل وجهه ويديه، يرتدي قنبازه وسترته، يعتمر الحطّاطة (الكوفية) والعقال، ويتوجّه الى الحظيرة. بخرج دابّتيه، وينطلق بهما الى الحقل لمتابعة حراثة ما تبقّى من حقول القمح والشعير.
وهنا تلاقيه زوجته بالزوّادة التي ضاقت بما امتلأت به من حواضر البيت، وقد أضيف اليها بضعة أرغفة من ثمار التنّور المقمّرة المعطّرة المطيّبة، من دون أن تنسى “طلمية” الزعتر البلديّ الكبيرة، تناوله إيّاها وهو على ظهر دابّته، فيلتقمها باشتهاء، وهو يعبر باب دارهم خارجاً.
“لا تتأخّر اليوم. بيجوز تغدرك شي عيانة شتا”.
… عادت الى تنّورها لتتواصل عملية التقريص واللّت والخبز، حركتها بهمّة ونشاط.
– عاجني درى (ذرة) يا سعدى؟
– إي يا مرت عمّي. عجنت كيلِه. منخلّيها لآخر الخبزة. الأولاد وابوهن بيحبّو خبز الدرى. بياكلوهن عجمعة.
وتطلّ الجارة أم يوسف بقهوتها:
– عالبركِه. شو مبلّشين بكّير اليوم. الهيئة عجنتكن كبيرة؟
– متل العادة. مُدّ ونصّ. بكّرنا. ما كان عنّا خبز لزوّادة “بو برهيم”. اقعدي. دوقي هالرغيف المحمّص ما أطيبه.
… ينطلق لسان المرأة بحديث يطول عمّا تنامى إليها من أخبار الضيعة والجوار، حتى إذا فرغت الجعبة، حملت صينية القهوة وعادت مزوّدة ببعض الارغفة الساخنة للأولاد.
ومن على السطح، تطلّ “غزالِي” صائحة:
– عالبركِه. ناوليني يا سعدى رغيفين سخنين. بدّي آكلهن مع شويّة زيتون.
… وتناولها ثلاثة من الارغفة الساخنة.
– تاكليهن بالهنا يا ام خليل.
وها هي صينية “السفسوف” مغطّاة بأوراق الخسّ والملفوف تحملها “أم بشارة”:
– عالبركه يا جيران. بدّي دوّقكن هالسفسوفات. دوقوا ما أطيبهن مع الخس والملفوف.
فعلاً كان “السفسوف “شهيّا”، وقد تناولته النسوة مع مقبّلات جديدة، من اخبار الزواج والطلاق والخطوبة والخصام والمصالحة في الضيعة.
امتدّت زيارة “أم بشارة” الى انتهاء عملية الخبز، حين غادرت منزل الجيران مزوّدة بحصّة دسمة من طيّبات التنور، من “الطلامي” وأرغفة الذرى التي توصف دواءً لكلّ مشتهٍ في هذه الديار.
إنتهت عملية الخبز وحملت “أم برهيم” ارغفة الخير والبركة الى موضعها، في وعاء معدنيّ كبير (اللغن) لتحفظ.
أدرك عمل التنور منتهاه مع حلول الظهيرة، وحان لجسد “أم برهيم” المنهك، الذي بدأ رحلة عمله منذ باكر الصباح، أن يرتاح ولو قليلاً؛ لأنّ بانتظاره اعمالاً منزلية أخرى لم تنجز بعد.
لكنّ آثار حرارة التنور في الرأس، بدأت ترسل وخزات متوالية مؤلمة، سرعان ما تحوّلت الى صداع حادّ، فدوار، فاستفراغ (القيء)، وكانت هذه الحالة المعتادة مع كلّ خبزة تنتهي بمسكّن تقتنيه لهذه الغاية، غير أنّ الأمر يبدو هذه المرّة لا تنفع فيه اقراص التسكين والتخدير.
كان “بو برهيم”، يجري خلف الفدّان “يشقّ الأرض بمحراثه أثلاماً عميقة عندما لاحت له في الاجواء نذر مطر قريب، خاصةً وقد ارتسم في الأفق قوسه الملوّن من الجنوب الى الشمال يذكّره بالمأثور عن الفلاحين “قبلي وشمال، فكّ الفدّان”.
فكّ الرجل الفدّان، وامتطى دابته وأسرع قبل أن يدركه وابل المطر، وعندما بلغ المنزل، فوجئ بامرأته على تلك الحال، فما تأخّر في احضار الطبيب للمعالجة. عاين الطبيب حالة المريضة، وعالجها بما لديه من علم وخبرة، وقفل عائداً، فيما كانت في فراشها تتجرّع دواءها، والمصل في يدها، وعلى شفتها ابتسامة المتالّمين الصابرين، وهي تقول لزوجها بصوت خافت ضعيف:
“ما كان بدها حكيم. كان الوجع بيهدا لحالو.. ما هيّي أوّل مرّة. شويّة وجع، ما إلهن قيمه. هاللقمة بتستاهل نتعب وننوجع شويّ كرمالها.
==========================
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى