عام مضى، وماذا بعد…!؟
خاص “المدارنت”..
إن الذي اختار شعار: «طوفان الأقصى» لعملية السابع من أكتوبر، لم يخطئ أبدًا، لأن ما حدث في غزة، بل في كل فلسطين والمنطقة العربية وفي كل بلاد العالم، هو طوفانٌ حقيقيٌّ بكل معنى الكلمة، غيَّر كثيرًا من الوقائع على الأرض، وأن العالم من بعده، لن يكون هو نفسه على كل الأصعدة والمُسْتويات.
فقد بدأت منذ عام، تتغير الموازين السياسية في المنطقة، وأمورٌ كثيرةٌ كانت قائمةً. وكذلك تغيرت كيفية التعاطي مع القضية الفلسطينية على المستوى العالمي، حتى ردَّة الفعل الصهيونية، وأساليب التوحش التي تمارسها، ولم يعرف لها التاريخ الحديث مثيلا، نالها التغيير أيضا، فذهبت إلى أقصى الأقاصي ، وطرقت أبواب اللامعقول، وأدمت القلوب، مما دفع الشرفاء في المنطقة وحول العالم إلى طرح سؤال مُحيِّرٍ، ومُحْزنٍ في آن معًا: ماذا بعد كل ذلك…!؟
إن مما لا شك فيه، أن الذين خططوا للطوفان لم يتوقعوا هذا السيناريو المأساوي إلى أقصى الحدود، والذي نعيش فصوله منذ عام. فهم خططوا ودرسوا جيدًا، كل جوانب معركتهم من حيث الإمكانيات العسكرية والبشرية والصمود، وكذلك على المستوى السياسي محليا ودوليا وعربيا من الألف إلى الياء، مما أدهش كل الساسة، وكذلك المُخططين العسكريين في أكبر المدارس والأكاديميات العسكرية. ولكن فاتهم عدة أمور ما كانت في الحسبان، من الممكن تلخيصها بأربعة:
الأول: هم شاهدوا كغيرهم العالم الغربي الديمقراطي، صاحب شعارات الحرية وحقوق الإنسان، يهرع ويتعاطف وينتفض من أجل أوكرانيا، وشاهدوا أيضا كيف دعمها سياسيًّا في المحافل الدولية، وعسكريًّا وماليًّا وصحيًّا وغذائيًّا… وكيف انعقدت بسرعة البرق جلسة خاصة للمحكمة الجنائية الدولية، وأصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بوتين. فاعتقد المُخططون للطوفان أنه سوف ينالهم من ذلك نصيب.
كذلك شاهدوا بأم العين الكرم العربي الأصيل، عندما تطلب منهم ماما أمريكا ذلك، وكيف انطلقت الطائرات العربية المحملة بالمساعدات على أنواعها من المطارات المختلفة لتحط في مطارات أوكرانيا. متناسين أن ما ينطبق على أوكرانيا لأسباب عرقية ودينية واستعمارية، لا يمكن بأية حال من الأحوال أن ينطبق على الفلسطينيين، أو أي شعب أو دولة عربية أخرى، وأن إنسانية الغرب المخادع لا، ولن، تشمل فلسطين والفلسطينيين والعرب عمومًا…
وهو ما ثبت فعليا عندما علت أصوات مناشدات وتصريحات ساسته الخجولة والرمادية، المطالبة بوقف إطلاق النار، والتي ما كانت إلا لذر الرماد في العيون، بينما كانوا يمدون الكيان بالمال والعتاد والسلاح ليُمْعِن في القتل والدمار وارتكاب الفظائع، وأيضا بالمعلومات الاستخباراتية التي هي أهم بكثير، لأنها سمحت للكيان بالتفوق في لحظات حاسمة. وكذلك سمحوا لشبابهم بالتطوع للقتال في الجيش الصهيوني، لكي يشارك في أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث، لتكون هذه الأنظمة الغربية في نهاية الأمر، مشاركة فعليا في كل الجرائم البشعة، التي تحدث على أرض فلسطين، بينما تستنكر ما هو أقل منها بكثير يحدث في أوكرانيا…
الثاني: وضع المخططون للطوفان في حساباتهم أن تخذلهم الأنظمة العربية، ولكن ليس إلى هذا الحد الفج والقميء، الذي أصبح مُساويًا للخيانة، والشراكة في القضاء عليهم… وإن توقعوا خذلان الأنظمة، إلا أنهم لم يتوقعوا صمت الشعوب، وخيانة النخب، الذين تحول قسم كبير منهم تحت ذرائع واهية مختلفة تزيح المسؤولية عن ظهورهم، إلى مُطبلين لمواقف الأنظمة، متناسين مقولاتهم يومًا في الترابط العضوي، والحبل السري، الذي يربط الأنظمة الحالية بالغرب الاستعماري والكيان الغاصب… فأثبتت الأحداث أنهم حقا الذراع الطويلة التي تعتمد عليها الأنظمة، التي كانوا يصفوها يوما في كتاباتهم وأحاديثهم بـ«الرجعية»، وذلك من قبل أن تنتقل دفاتر المُخصَّصات والهدايا النقدية من العراق وليبيا إلى بعض الأنظمة الحالية…
وقد تبعهم في ذلك، فرقة علماء السلاطين «المبراراتية»، الذين أدخلونا سريعا كعادتهم في متاهات الحلال والحرام… حتى إن بعضهم وصف ما قامت المقاومة في غزة بالموبقات المحرمة شرعا، بحجة أنها لم تأخذ رأي «أولي الأمر»، ولا ندري متى كان هؤلاء يملكون حرية القرار، ويبحثون عن كرامة شعوبهم، أو يريدون تحرير فلسطين، وهم المُهَرْولون حفايا نحو التطبيع، والجلوس في أحضان الصهاينة…! لتأتي من بعدها الفتوى الأشبه بالمهزلة، والقائلة بعدم جواز الترحم على شهداء غزة، وبذلك يكونون قد اصطفوا ووقفوا خلف أعداء الأمة، وقاموا بواجبهم الخياني على أتم وجه…
والحق يقال، إن غالبية الشعب العربي وإن كانت عواطفها ومشاعرها وبوصلة قلبها تتجه نحو فلسطين ومقاومتها الباسلة، ولكن ما مارسته بعض الأنظمة من قمع بحق المتعاطفين مع فلسطين وشعب غزة المُسْتباح دمه وكرامته وإنسانيته، جعلها تفكر ألف مرة من قبل أن تخطو أية خطوة للتعبير عن موقفها بوضوح…
ثالثا: لم يتوقع المخططون للطوفان أيضا، أن يذهب الكيان في جرائمه إلى هذه الدرجة من التوحش، واستباحة للدماء، حتى إنه لم تبق فظيعة من الفظائع، أو جريمة من الجرائم التي من الممكن ارتكابها بحق غزة وشعبها، لم يرتكبها هذا الكيان الذي لا يمكن أن نجد له في القواميس وصفًا يليق به…! وإن كل التعابير اللغوية والأوصاف، تقصر عن إيفائه حقه. وأصبحت كلمات مثل: جرائم حرب، وأخرى ضد الإنسانية، ومجازر، وإبادة جماعية الخ… لا تفي بالمطلوب بتاتا أمام هول وبشاعة ما يرتكبه يوميا.
رابعا: لم يخطر ببال الذين خططوا للطوفان، بأن بعض الأنظمة العربية، لن تكتفي بموقف المتفرج كعادتها في غالب الأحيان، وأنها سوف تتخطى كل حواجز «العيب»، وتدوس بأقدامها على أخوة الدم وقيم العروبة…! وتسمح لشحنات البضائع والسلع المختلفة التي يرسلها تجار السوء والانتهازية، إلى الكيان الغاصب برا وبحرا وجوا بتشجيع من السادة أولي الأمر أنفسهم، كعربون للتسامح العربي، ومكافأة للصهاينة على ذبحهم لإخوانهم، مما شكل أحد أهم شرايين الحياة بالنسبة للكيان الصهيوني، والتفافا على الحصار اليمني للبحر الأحمر. أما شحنات الأسلحة التي تنطلق من القواعد الغربية على الأراضي العربية، ويقدرها المراقبون بمئات الرحلات أسبوعيا، فإن الكيان المتوحش، لن ينسى لهم هذه الفضائل الإنسانية بكل تأكيد، وأعتقد أنه سوف يكافئهم على كل ذلك، بأن يكون أكثر رحمة وإنسانية معهم، مما هو عليه اليوم مع أهلنا غزة، وذلك عندما سيقرر توسيع حدوده التوراتية المزعومة…
وإلى كل الباحثين عن جواب لسؤالهم: ماذا بعد كل ذلك…؟! نقول لهم لا شيء… نعم، وبالفم الملآن «لا شيء»… ولا أحد يتوقع شيئا خصوصا بعد الانتخابات الأمريكية، إلا مزيدًا من المجازر والإبادة والدماء والدمار…
نعم، لا شيء، إلا مزيدًا من الجرائم التي يندى لها الجبين. لأن قرار تأديب الفلسطينيين واللبنانيين والانتقام منهم، وإسكاتهم إلى الأبد، قد اتخذ على أعلى المستويات، في الدوائر الأمريكية والغربية الاستعمارية، وبموافقة عربية، بل بطلب عربي صريح كما ذكر الصحافي الأمريكي بوب وود ورد، في كتابه الأخير «حرب war»، وذلك لكي لا تقوم قائمة لأية مقاومة بعد اليوم ولعقودٍ، ولكي لا يتجرأ أحد على الكيان الغاصب ربيب الاستعمار، والقائم على خدمة مصالحه في المنطقة… مما يريحهم جميعًا من الإزعاج المتكرر، الذي كانت تتسبب به غزة ولبنان، ويلتفتون بالتالي إلى إكمال مشاريع التطبيع بهدوء، وفرض الكيان على شعوب المنطقة التي ترفضه…
ولكن، الشيء الأكيد هو أن العرب عاجلا أم آجلا، سوف يدفعون الثمن غاليا، لأن هذا الوحش الصهيوني العنصري المتغوِّل، لا حدود لأطماعه، ولا لشراهته ورغباته. خصوصا أن الغرب الاستعماري قد أطلق له العنان، ولن يمنعه أحد. وفي ذلك يكمن الجواب الشافي على سؤالنا: وماذا بعد كل ذلك…!؟