مقالات

عبد القادر غوقة.. الأستاذ والصديق!

المناضل الناصري الراحل عبد القادر غوقة

“المدارنت”..
وقع الاختيار على “العبد لله”، أيّ شخصي المتواضع، للذهاب إليه كيّ أطلب دعمًا عينيًا وماليًا لأنشطتنا وتحركاتنا واجتماعاتنا وندواتنا والمكتبة.. أما الهاء في “إليه” فتعود للأستاذ عبد القادر غوقة، الذي كان آنذاك -عام 1972- وزيرًا للإعلام في حكومة “اتحاد الجمهوريات العربية”، الذي ضم مصر وسوريا وليبيا، وكان مقرها في المبنى الذي أنشئ قبل عقود طويلة كفندق، ثم تحول إلى مقر رسمي هو الآن رئاسة الجمهورية!
وأما الـ”نا” في “أنشطتنا وما تبعها”، فتعود على مجموعة من الشباب المصري من القيادات الطلابية في اتحاد طلاب كليات جامعة عين شمس، وفي مجلس اتحاد طلاب الجامعة، الذي يضم ضمن أعضائه ممثلين للدراسات العليا كنت أحدهما مع الراحل العزيز المهندس محمد عبد المنعم الملاح.. وبحثت عن عنوان مسكنه، وتوجهت إلى فيلا جميلة في مصر الجديدة- بدون موعد طبعًا- وطلبت من الواقفين على البوابة إبلاغه بأن فلانًا من جامعة عين شمس يريد المقابلة.
دخلت واصطحبوني للحديقة، حيث كان يجلس ومعه الأستاذ سامي صوفان، الوزير السوري في اتحاد الجمهوريات، يلعبان الطاولة.. وجلست بعد السلام والترحيب أتابع.. “الدوبارة والبنج يك والدوش.. وغيره”، إلى أن أتى الدور وطويت الطاولة وشربت الشاي ومن بعده القهوة، وشعر الأستاذ صوفان أنني أنتظر الانفراد، واستأذن، وبدأت بتقديري لتاريخ ودور الأستاذ عبد القادر، وإننا كناصريين نقدر ناصريته وناصرية العقيد وليبيا كلها.. ثم دخلت في الموضوع، وككل موضوع بدأته باللازمة المعتادة:
“الحقيقة أننا أقمنا تنظيمًا طليعيًا ليحل محل التنظيم الذي ضربه السادات، وأننا نسيطر على أكثر من اتحاد طلابي في أكثر من جامعة.. وأن لدينا النادي السياسي الثقافي الذي تؤصل فيه النظرية والمنهج ونواجه الخصوم من ماركسيين وإسلاميين.. إلى آخره.. وإننا نحتاج لدعم عيني ومالي.. يعني رزم ورق وأفرخ استنسل وماكينات آلة كاتبة وتغطية مالية لأنشطتنا وتحركاتنا وخلافه”، وانتظر حتى انتهيت، وبهدوء شديد، جاءني رده الذي كان درسًا لم أحد عنه إلى الآن:
“شوف يا سيدي، أولًا نعم أنا ناصري مثلكم.. ونعم نحن نتابع كل ما تقومون به باعتزاز شديد، ودعني أذكر لك إنني كنت عضوًا منظمًا في “الطليعة العربية” قبل قيام ثورة ليبيا بسنين طويلة، وقبل ذلك كنت وبعض زملائي في بنغازي، نقوم بمهام عديدة لمساندة الثورة الجزائرية، منها نقل السلاح من الحدود الليبية المصرية إلى داخل الجزائر..
وكنت أذهب الى القاهرة لحضور الاجتماعات مع مسؤول الشؤون العربية فتحي الديب، فأرفض أن يدفعوا لي ثمن بطاقة السفر ولا الإقامة.. رغم أنني كنت مدرسًا بسيطًا.. ولا بد أن تعلم الفرق بين المناضل الثوري والمحترف السياسي.. المناضلون الثوريون يعتمدون على مواردهم وإمكانياتهم فإذا استنفدوها تمامًا، حاولوا اللجوء إلى جهات مناضلة موثوقة لديها إمكانيات، أما المحترفون فهم أقرب للمرتزقة..
وعن نفسي كعبد القادر غوقة، أنا مستعد كشخص ناصري أن ألتزم بدفع نسبة تحددونها من راتب كل واحد منا يعمل وله راتب.. أما عني كمسؤول ليبي، فأحب أن أقول لك إن قيادة ليبيا تعلن اليوم ناصريتها، ولا يضمن أيّ أحد هل سنستمر في ذلك أم ستتغيّر؟!
وأحب أن أقول لك إنني إذا دفعت لك مليمًا رسميًا، فسأتعامل معك باعتبارك في الحد الأقصى مقدم خدمات نأمرك بها فتؤديها.. وفي الحد العادي كـ”جاسوس”، تتلقى أتعابك.. ثم انتهى إلى أنه سيلتزم بما نقرره كنسبة من مرتب أو دخل كل من لديه دخل، أما غير ذلك فهو ليس مستعدًا أن يرى شقيقًا ورفيقًا ناصريًا يتحول إلى عميل لنظام، أيا كان هذا النظام”!
ومنذ ذلك اليوم، لم يغب هذا الدرس عن ذهني وعن نفسي وعن مسلكي.. ولم تنقطع الصلة بيننا، بل أخذت تتعمق حتى صرنا مع قلة قليلة من الأصدقاء في مصر وفي الوطن العربي أكثر من أشقاء.
كان الأستاذ عبد القادر، تكوينًا إنسانيًا متفردًا، سواء من حيث البنية الجسدية أو القدرات البشرية أو الأعماق الإنسانية.. يصحو مبكرًا بعد ليل يقظ قد تمتد جلساته مع لوازمها إلى قبيل الفجر.. يحفظ شعر المتنبي كله عن ظهر قلب ويستدعي منه في لحظة ما يريد استدعاءه ليتناسب مع الحديث أو مع المواقف.. يقبض على جمر مبادئه وعروبته وليبيته وثوريته ولا يتراجع مهما كان الحال.. لا يؤثر في عزيمته وحركته وحيويته ضغط، حتى وإن وصل إلى أن يأمر النظام الذي كان يمثله سفيرًا في بيروت باغتياله.. ويضربه المكلفون بالمهمة بالرصاص الحيّ من مسافة قريبة، ورغم الإصابات كان ينهض ويثب للإمساك بالجاني، وأصر على الحياة ليتعافي بعد إخراج الرصاصات التي تركت عطلًا في إحدى ساقيه.
وكنا نلتقي ونتناوش ونتشاتم شتائم السخرية والمودة، وإذا تصادف وكان ما أطلقه بلساني جديدًا ومثيرًا ضحك واستحسن اللقطة أو القفشة أو الشتمة، وعشت معه تغير النظام الليبي بقيادة (الرئيس الليبي الراحل معمر) القذافي عن قناعاته الناصرية التي اعتبرها مرحلة بائدة، وأن من لم ينتقل منها إلى “النظرية العالمية الثالثة”، و”الكتاب الأخضر”، متخلف وأخطر من القوى المضادة.. ثم عشنا نهاية ذلك النظام وحلول الفوضى والدمار واختلفنا واتفقنا، ولم تعد الظروف تسمح باللقاء المباشر.. فكنا نتقابل ونتحاور على الفيس بوك.. ثم.. ثم إنني أنتوي أن أكلمه وأعاتبه: لماذا قررت الرحيل.. أو قبلت به.. أو أجبرت عليه قبل أن نتناقش؟ وعمومًا سأبحث عند المتنبي عن بيت مناسب لعتابك به!
رحم الله عبد القادر غوقة، المناضل الوطني والقومي والإنساني الجسور، والمثقف الموسوعي والأخ الصديق الشقيق!

المصدر: أحمد الجمّال/ “المصري اليوم”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى