مقالات

عهد الحبّ!

د. عبد الناصر سكرية/ لبنان

خاص “المدارنت”..
الله محبة، الحبّ عنوان الحياة الجميل، الحبّ جوهر الإنسان الحرّ النبيل، الحبّ الذي أهدرته مفاهيم الحداثة المعاصرة فأفقدته معانيه الإنسانية الشاملة، وسخفته إلى مضامين الغرائز والإنتفاع والمصلحة، أليس الله محبة؟ أليس الإيمان أن تحبّ الإنسان والخير والعطاء؟ “لا يؤمن احدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه..”، حديث نبوي شريف، وهل في الإنسانية ما هو أسمى وارقى من هذا المفهوم العظيم للحبّ؟
أطلقت نظام الحداثة الغربية يوما أسماه عيد الحبّ، فإختصر الحياة الإنسانية بتخصيص يوم واحد للحبّ، وأيّ حبّ؟ طبعا بعد أن إختصره زمنيا بيوم واحد؛ سخفه في مضمونه إلى الحد الذي أصبح فيه غريزة أنانية وحيدة الجانب، فأسبغ عليه ذلك المضمون المادي النفعي الإستهلاكي المرتبط بالبعد الغرائزي للإنسان، مسقطا عنه الأبعاد الأخرى المكملة لإنسانية الإنسان، وجوهر وجوده ومكونات شخصيته وأساسيات دوره في الحياة، ورسالته الخالدة خلود التعبير عن المعاناة الإنسانية، وصفاء السريرة وعمق الإلتزام بالحرية الإنسانية في إطار التكامل الإجتماعي- الإنساني.
إن إفراغ الحبّ من مضمونه الإنساني الإجتماعي الشامل المتكامل، وجعله مقتصرا على البعد الغريزي ومرتبطا بآنية مصلحية ظرفية متقلبة، تبعا للأهواء الفردية ونزعاتها الإنفعالية؛ أفقد الحبّ ذلك السمو الذي يمثله ويحتاجه في ذات الوقت، فهو – أي الحبّ – ظاهرة إنسانية فطرية تتعلق بكل علاقات البشر ببعضهم؛ وبكل علاقة تربط الإنسان الفرد بكل الآخر، الآخر أكان إنسانا أو عملا أو بيئة أو حيوانا أو طائرا أو طبيعة، فكيف ينجح ألإنسان في عمله إذا لم يكن يحبه، وكيف يربّي أولاده إن لم يكن يحبهم، وكيف يبني أسرة متوازنة مستقرة إن لم يكن الحبّ عماد العلاقة الأسرية بين الزوج والزوجة وبين الاهل والأبناء؟
كيف للإنسان أن يبدع او يجتهد في تنمية مجتمعه، إن لم يكن يحبه، ويتكامل معه بالحب مصلحة ومصيرا؟
كيف للمواطن أن يفدي وطنه ويسهم في حمايته وعمرانه، إن لم يحبه، فيجعله هذا الحب منتميا إليه قابلا بهويته متفاعلا مع أبنائه؟
كيف للفلاح يحرث أرضه ويعتني بها، إن لم يكن يحبها فيبدع في التفاعل الإيجابي معها لتعطي وتثمر؟
وكيف للجندي أن يفدي وطنه ويقاتل ذودا عنه، إن لم يكن يحبه ويحس بالأمان في كنفه وظلال رعايته؟
وهكذا يمضي قطار الحياة، وقوده الحبّ الصادق الأصيل، حتى يصل إلى مبتغاه سليما ناجحا معافى..
إن تخصيص يوم واحد للحبّ، وإطلاق غرائز السيطرة والتحكم والإمتلاك والتهديد والبطش والظلم والقهر والإبتزاز والعدوان في كل يوم وكل مكان وكل عمل؛ إنما هو تدمير لكل المعاني الجميلة للحبّ بكل أبعاده المتكاملة..
إن حصر مضمون الحبّ على جانب غرائزي أوحد بين رجل وإمرأة، ولمدة من الزمن محدودة قابلة للإنتهاء في أيّ وقت، وخاضعة لكل تقلبات العواطف والأمزجة والإنفعالات ومحدودية الأثر؛ إنما هو قضاء على الحبّ وإفقاده ذلك المعنى الإنساني الجميل..
وكما هو حال القيم الإنسانية الأخرى؛ تواصل مفاهيم العولمة الرأسمالية المادية النفعية؛ تفكيكها لهذه القيم وتفريغها من مضمونها الإنساني الإيجابي النبيل، وحينما يتعذر التفكيك التام لسبب من مناعة ذاتية او مقاومة إجتماعية؛ يجري التركيز المطلق على الشكل وإبعاد أي إنتباه أو إهتمام بالمضمون، وهذا ما يؤدي إلى نشر سخافة التفكير وبلاهة الإهتمام، بما تسبب في بسط عصر متكامل من التفاهة وتسلط المظاهر والشكليات السطحية على كل مناحي الحياة والعلائق، حتى باتت المظاهر التافهة هي المعيار الأوحد لتقييم البشر، ومدى وجاهة دورهم ومستويات نفوذهم وعطائهم..
يتكرس هذا في كل مجالات الأنشطة التي تبرزها وتوجهها وسائط وأدوات ما يسمى بوسائل التواصل الإجتماعي، والأولى أن تسمى وسائل التخريب الإجتماعي لما فيه من توجيه ومادة، تحرض على السخافة والتفاهة والرذيلة، لها وفيها من مغريات مادتها المعدة بسخاء وإهتمام شديدين، ما يمكنها من التأثير الفعال والجاذبية الآمرة والتعلق الإدماني، الأمر الذي يهدد مستقبل أجيال الشباب بإبعادها عن كل إهتمام جدي أو مضمون حقيقي فاعل ومؤثر ومفيد..
إن الجميع يستخدمون المرأة اداة للتسويق والإغراء والإبتزاز والكسب الماضي، ويدّعون أن يوم الحبّ أو عيد الحبّ مُخصص لحبّ المرأة، في الوقت الذي يريدها البعض سلعة لزيادة أرباحه، بزيادة إستهلاك البشر لما ينتج من سلع مادية..
إن أقدر طرف على تجسيد الحبّ بأبعاده الإنسانية المتكاملة الأصيلة هي المرأة، وهي أكثر ما تعاني من غيابه، وتحتاج إليه، فهي أكثر الأطراف الإجتماعية قدرة على فهمه والتعبير عنه والإلتزام به، فيما واقع الحداثة الغربية يشير عكس ذلك تماما، رغم كل إدعاءاته الكبيرة وكلامه الصاخب عن حرية المرأة..
إن هذا التفكيك للإنسان ذاته، وحصره في بعد غرائزي مصلحي وحيد، وتسمية ذلك كله بالحبّ، إنما بات خطرا يهدد المجتمعات الإنسانية، ويفكك بناها لمصلحة من يمتلكون قوة المال والإعلام والسلاح، ويفقدون زخم الحبّ والإنسانية والعطاء..
الحبّ عهد وإلتزام ووفاء..
الحبّ توازن وإتزان وفداء..
الحبّ بذل وعطاء..
الحبّ تفاعل إيجابي حرّ نبيل، يغطي كل جوانب الحياة وميادينها وأنشطتها..
لا يعرف الحبّ، إلا من كان إنسانًا متكامل الأبعاد الروحية والنفسية والجسمانية..

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى