مقالات

عودة القومية.. ولكن أيّ قومية!

الكاتب العربي الراحل مُحمّد خليفة/ سوريا

“المدارنت”..
في ثنايا التطورات الدراماتيكية التي تجتاح العالم من أميركا الى الصين, ومن بريطانيا الى الهند، عنصر مشترك يبرز بقوة ويزداد وضوحا كل يوم, إنه عودة النزعة القومية الى المزاحمة بقوة مع الليبرالية والعولمة والانفتاح والتكتلات العالمية ما فوق القومية.
اتجهت الانظار قبل شهور الى بريطانيا التي قررت الخروج من الاتحاد الاوروبي واستعادة (استقلالها القومي). حدث دراماتيكي يهدد بانهيار أو تقلص المشروع الاوروبي الكبير, صنعه وقاده حزب قومي شوفيني (حزب الاستقلال البريطاني) وليس الحزبان الكبيران, ورمزه هو نايجل فاراج السياسي القومي الذي يعادي المهاجرين وذوبان الهوية البريطانية.
وفي الشهور الثلاثة الاخيرة اتجهت الانظار الى أميركا، حيث فاجأ ترامب الجميع وحقق فوزا مثيرا بفضل خطابه القومي العنصري المتطرف الذي وحد صفوف البيض الامريكيين ضد الملونين واللاتين والمسلمين. ترامب نجح في حشد وتعبئة مكون واحد من المكونات الاميركية العديدة [61 مليونا فقط من اجمالي 325 مليونا] يقودهم اليوم في ثورة قومية شعواء ضد العالم الخارجي: يعادي المهاجرين في بلد بني بسواعد وزنود المهاجرين, ولكنه يخص بعدائه الملونين ويريد تكريس التفوق العرقي للجنس الابيض وسيطرته على أميركا.. واقصاء الآخرين.
حرب ترامب التجارية التي يهدد بها الصين, وانسحابه من اتفاقية التجارة الحرة, ومطالبته للشركات الاميريكية بالعودة للتصنيع في امريكا هي توجهات نابعة من النزعة القومية التي يلخصها شعاره (اميركا أولا) وشعاره الآخر (لنصنع أميركا عظيمة مرة اخرى) شعاران  قوميان تحريضيان. تصريحات ترامب وخطاباته تعزف على نفس الوتر في جميع توجهاته: التخلص من المسؤوليات العالمية لأميركا, بما فيها الدفاع عن الحلفاء التقليديين الاوروبيين الذين تربطها بهم علاقة الاصول العرقية, ودعوته لحل حلف الناتو الذي يرمز لدور اميركا في حماية اوروبا وقيادة (العالم الديموقراطي), وتحريضه على الانسحاب من الاتحاد الاوروبي.. إلخ. كل هذه التوجهات تعني أن نزعته القومية ورفضه للعولمة هي اتجاه منهجي راسخ, لا اتجاه عرضي مؤقت. ولذلك يحرض ويشجع أشباهه  في الدول الاوروبية على الاقتداء به, وقد بدأنا نرى تداعيات متتالية كالهزات الارتدادية لزلزال عنيف.
في بريطانيا حزب الاستقلال ونجمه نايجل فاراج المسؤول عن الانسحاب من اوروبا, وفي فرنسا حزب الجبهة القومية بزعامة  السيدة لوبان التي استنسخت شعار ترامب ليكون (لا لبروكسيل.. نعم لفرنسا) وتعهدت بـ(إعادة فرنسا عظيمة مرة أخرى), وحتى الحزب الديغولي ماشى الموجة الجارفة نحو القومية اليمينية الشعبوية مع صعود نجمه القوي فرانسوا فيون. وفي ايطاليا حزب رابطة الشمال, وفي المانيا الحزب القومي الديمقراطي, في المجر حزب تحالف شباب اليمين الذي صاغ شعار (من اجل مجر أفضل ) وحزب فيديز الذي يتزعمه رئيس الحكومة المعادي للمهاجرين فيكتور اوربان. وفي بولونيا حزب القانون والعدالة, وفي السويد حزب الديمقراطيين. وفي النمسا حزب الحرية الذي كاد مرتين أن يصل الى الحكم والرئاسة. وفي النرويج  حزب المؤتمر, وفي فنلندا حزب الفنلنديين الاصليين. وفي هولندا حزب من أجل الحرية بزعامة خيرت فيلديرز الذي يتفوق على الآخرين جميعا بتطرفه وعنصريته وكراهيته للاسلام .. إلخ.
في روسيا كانت ظاهرة فلاديمير بوتين هي الرافعة القوية للنزعة القومية منذ وصوله الى الحكم قبل سبعة عشر عاما, فقد كانت وما تزال هي بطاريته التي يستمد منها طاقته الشعبوية لحشد الشارع خلف سياسته التوسعية والعسكريتارية في مواجهته مع الغرب واوروبا بشعارات مستمدة من نزعته القومية التي تستهدف (احياء عظمة روسيا القومية الامبراطورية) ومكانتها العالمية وبسط حمايتها على الشعوب السلافية في كل مكان, ويستعمل التراث القومي القيصري وقوة الكنيسة الارثوذوكسية في الداخل والخارج كوسائل وسلالم للوصول الى غاياته الاستراتيجية العليا.
كل هذه الاحزاب لها توجهات متشابهة, قومية يمينية, شعبوية, عنصرية, معادية للمهاجرين وخاصة المسلمين, توجهاتها رافضة للاتحاد الاوروبي, وتستعىد لاحياء الثقافة القومية التمجيدية وترفض العولمة. وقد اكتسحت الصفوف في انتخابات السنوات الأخيرة, وبعضها مرشح للوصول للحكم في القريب العاجل, كفرنسا وهولندا والنمسا, وبعضها في الحكم فعلا.
وحتى في الدول البعيدة, كما في الصين والهند واليابان تستعيد النزعات القومية دينامياتها وزخمها. فالحزب الشيوعي الصيني هو الآن حزب قومي بالدرجة الاولى يسعى لتحقيق شعاره القومي (صين واحدة) وقمعه الدموي لأي نزعات استقلالية في الداخل والمحيط كالأقلية التركمانستانية المسلمة (الايغور) أو تايوان, والصين الوطنية ويحلم بالتوسع في المحيط وعبر البحار.. ولا مانع لديه من تزعم العالم.. كما قال مؤخرا!
وفي الهند، يواصل القوميون الهندوس المتشددون سيطرتهم التدريجية على الدولة التي تميزت في القرن الماضي بهويتها التعددية والتعايشية مع بقية المكونات الدينية والقومية التي تبلغ مئات الاقليات القومية والدينية. الحزب الحاكم الآن (بهاراتيا جاناتا) هو حزب هندوسي قومي, ورئيس الحكومة نيرندرا مودي كان عضوا رئيسيا في منظمة المتطوعين القوميين (RSS) الهندوسية المتطرفة, كما يواصل حزب (هيندوتفا) تسلله  الى أجهزة الدولة, وهو الحزب الهندوسي القومي الأكثر تطرفا وعنصرية ضد المسلمين, ويشكل خطرا بشعاره (اعادة بناء الدولة الهندوسية) ويضطر (بهاراتيا جاناتا) لمغازلته والتقرب منه, لأنه ليس بعيدا عن فلسفته وعصبيته ويتقاسمان معا نفس القاعدة الشعبية الميالة لليمين المتطرف.
للأسف يمكننا تعداد المزيد من هذه الظواهر في العالم وتوقع ظهور المزيد أيضا في كل القارات, لأن صعود ترامب في اميركا, وبوتين في روسيا, واشباههما في دول اوروبا سيغذي النزعات والعصبيات المشابهة,  ويخلق ردات أفعال وأصداء اديولوجية وسياسية. والمفارقة هنا أن العرب هم الأمة الوحيدة  التي لا تشهد يقظة النزعة القومية فيها حاليا, بل تستمر في التشظي وتستنكر عروبتها وقوميتها حتى أصبحت فكرة العروبة أو القومية ومشروع الوحدة العربية, لا بل وحتى أفكار أولية كالدفاع المشترك, أو التنمية القومية, والعمل العربي المشترك.. مجرد ذكريات باردة لا تحركها حتى النوستالجيا!
عودة القومية للحياة بقوة جارفة في العالم كله يمثل انتكاسة عنيفة للتيارات التي خلقت الازدهار والتسامح والانفتاح بعد الحرب الثانية, وانتكاسة للعولمة والليبرالية واليسار والوسطية والاعتدال, لا سيما وأن القوميات التي أشعلت الحربين العالميتين في القرن الماضي تعود  مكتسحة العالم اليوم وهي أكثر توحشا وعدوانية وعنصرية وانغلاقا تجاه (الآخر) ولذلك لا يجب أن يفاجئنا رفع الحظر عن كتاب كفاحي لادولف هتلر في المانيا في العام الماضي والسماح بطباعته وبيعه وتداوله تعبيرا عن هذا التحول الرجعي الخطير وعودة الافكار النازية الى الشيوع.. ولذلك فإن ظواهره ومنتجاته السياسية تنذر بأخطار حقيقية, يمكننا توقع مفاعيلها من خلال سياسة بوتين وترامب, وأفكار لوبان واوربان وفيليدرز وفاراج وفيون!
الى أي مصير مجهول.. وأي هاوية سحيقة يتجه العالم؟!

ألمصدر: “الشراع” اللبنانية، في 27-1-2017
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى