غزة.. لحظة مراجعة فلسطينية كبرى!
“المدارنت”
أعلنت حركة «حماس» وفصائل المقاومة، أمس الأحد، تعديلات على المقترح الأمريكي على اتفاق لوقف إطلاق نار في قطاع غزة، وهو ما اعتبرته إسرائيل رفضا للهدنة ومبررا لاستئناف مسلسل الإبادة.
تعتبر هذه مناسبة لمراجعة فلسطينية كبرى للأحداث المهولة التي تعرّض لها الفلسطينيون، وفي صلب هذه المراجعة بالتأكيد، تحميل كثيرين مسؤولية ما حصل لـ «حماس» (وليس لإسرائيل).
أعادت الأحداث التي جرت بعد 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023 وضع الشعب الفلسطيني في ظروف تذكر بأحوال نكبة 1948، وحمّلت حركة «حماس» مسؤولية تعريض الشعب الفلسطيني لهذه المحنة الكبرى التي تهدد بإنهاء الوجود الفيزيائي للفلسطينيين على أرضهم التاريخية، عبر أشكال تتدرج من الاستيطان المتوسع، وخطط التطهير العرقي، وصولا إلى ممارسة الإبادة الفعلية والثقافية.
تفترض الانتقادات لحركة «حماس» أنه لو لم تحصل عملية «طوفان الأقصى» فإن هذه الخطط الإسرائيلية كان يمكن مجابهتها بالسياسة والدعم العربي والدولي للفلسطينيين، وأن تلك العملية أعطت نتنياهو المبرر للخروج من الأزمة التي كانت تقسم المجتمع الإسرائيلي بين العلمانيين والمتدينين ومكنته من توحيد الإسرائيليين خلفه، ووفّرت له الغطاء السياسي (والسلاح) الأمريكي والأوروبي لشن حرب شاملة على الفلسطينيين ضمن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» و«القضاء على إرهاب حماس».
من الانتقادات المهمة أيضا لـ«حماس» أن الحركة لم تقم باستشارة الفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية أو التنسيق مع السلطة الفلسطينية والدول العربية في هذا القرار الخطير جدا بمواجهة إسرائيل، وهي بالتالي تتحمل مسؤولية آلاف الأرواح التي أزهقت، والتداعيات المهولة التي زلزلت أركان الشعب الفلسطيني، وأزهقت أرواح عشرات الآلاف من أبنائه. من الانتقادات المتكررة أيضا للحركة أنها لم تفهم أو تقدر توازنات العالم، وأنها ورطت حلفاء لها في المنطقة، من إيران واليمن إلى العراق وسوريا ولبنان الخ.
تتجاهل هذه الانتقادات، بداية، أن هذه الحرب الأخيرة سبقتها حروب إسرائيلية سابقة ضد غزة في 2008 و2012 و2014 و2019 و2021، كما تفترض لأخذها على محمل الجد أن الاستيطان واحتلال ومصادرة الأراضي، وخطط تهويد القدس والأقصى، والعمل على إنهاء القضية الفلسطينية ومشروعاتها السياسية، لم تكن جزءا أساسيا من برامج وسلوكيات قوى اليمين الإسرائيلي من الليكود، مرورا بطيف سياسي إسرائيلي واسع موافق على هذا البرنامج.
تمثّل الحرب الأخيرة، بهذا المعنى، استكمالا لسياق عسكري ـ سياسيّ متواصل، ويعتبر انفجارها، وكذلك تداعياتها اللاحقة، تطوّرا طبيعيا لسياق غير طبيعي، هو تعريف إسرائيل باعتبارها إلغاء لفلسطين والفلسطينيين، وليست حدثا منفصلا عن الواقع أو فكرة «انتحارية» خطرت في بال يحيى السنوار وقيادة «كتائب القسام» وحركة «حماس» فنفذتها.
في المقابل، وضعت النكبة الجديدة للفلسطينيين معادلات العالم، والإقليم، والمنظومة العربية، في أزمة ذات أبعاد كبيرة استدعت تدخلات مباشرة من أمريكا (بالتعاون مع قطر ومصر) لرعاية اتفاق لوقف إطلاق النار، وضغوطا متزايدة من أوروبا على إسرائيل لوقف حصارها التجويعي للقطاع ووقف المجازر فيه، كما أعادت تفعيل الجهد العربي بطرق جديدة تعتمد الصفقات والعلاقات المباشرة مع الإدارة الأمريكية.
نتج عن الدينامية الكبرى لتداعيات الحدث ظهور نظام حكم جديد في سوريا بعد حقبة دكتاتورية استمرت 55 عاما، وانتخاب رئيس لبناني ورئيس وزراء متوافق عليهما عربيا وعالميا، ومفاوضات على مشروع إيران النووي (ونفوذها في المنطقة العربية).
فجر قرار عملية «حماس» العسكرية التوازنات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ووضع المشروعين الإسرائيلي والفلسطيني في مواجهة قصوى، وهو ما وضع العرب (الذين كانوا يتحضرون للتطبيع مع إسرائيل) والعالم (المتواطئ مع إسرائيل) أمام الواقع الصريح للطبيعة الإبادية الإسرائيلية، دافعا المسار البطيء المتدرّج للإبادة والاستيطان والتطهير العرقي إلى حدّه الأقصى الممكن، كما رفع الحاجة لحل نهائي وعادل للقضية الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق.
الخيار الآن هو بين سيادة الهمجية في العالم وبقاء الفلسطينيين.