عربي ودولي

غزّة بعين واحدة مفتوحة على الجراح!

مريم مشتاوي/ لبنان

“المدارنت”..
في غزة، حيث تُكتب الحكايات بالدموع والدماء، جاءت لحظة طال انتظارها، لحظة الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين. تلك التي تتنفس فيها المدينة الصامدة فرحًا مختلطًا بالحزن، وكأنها ترفض أن تكون السعادة فيها خالصة. في هذا المشهد، عادت آيات محفوظ، الأسيرة الفلسطينية التي حملت في عودتها حكاية وطن بأكمله، وطن جريح مثقل بالآلام. عادت بعين واحدة مفتوحة على الجراح، وأخرى أُغلقت إلى الأبد بفعل يد الاحتلال الغاشمة، عادت بروح لم تنكسر، رغم سنوات القهر والعذاب.

آيات محفوظ، ليست مجرد أسيرة أُفرج عنها، إنها أيقونة للصمود الفلسطيني في وجه الاحتلال، حكاية نسجتها خمسة اعتقالات قاسية، كل منها كان فصلًا من المعاناة التي يصعب على الكلمات وصفها. أول اعتقال دام خمسة وأربعين يوماً، اعتقالان متتاليان في المدة نفسها، ثم عشرة أشهر من السجن في الاعتقال الثالث، وخمس سنوات في الاعتقال الرابع، وأخيرًا اعتقال دام عامًا واحدًا.
ولكن أي عام هذا؟ عامٌ امتد كأنه دهر. عامٌ سُلبت فيه آيات من أهلها ومن ذاتها، عامٌ صادر فيه الاحتلال كل ما يرمز إلى حياتها، حتى أبسط أدواتها الشخصية. أخذوا منها كل شيء، حتى المكواة، وكأنهم كانوا يريدون أن يسلبوها ليس فقط حريتها، بل أيضًا تفاصيل حياتها الصغيرة التي كانت تجد فيها عزاءً وسط القهر.
عادت إلى أهلها حاملة وجع السجون وآلام الزنازين. تقول بصوت تخنقه ذكريات التعذيب: «اعتقلوني بطريقة وحشية لا يمكن وصفها»! العبارات تخرج من فمها وكأنها تحمل أثقالًا من العذاب. كانت تتحدث عن أيامها في المعتقل وكأنها تستعيد مشاهد فيلم كابوسي، تعرضت فيه لكل أنواع العنف اللفظي والجسدي والنفسي. الضرب المبرح كان وجبتها اليومية، شتائم تهين الكرامة وتحاول كسر الروح، وأحيانًا كان العنف يصل إلى حد الوحشية المطلقة. جندي بقدم ثقيلة داس على بطنها، مسبباً نزيفًا حادًا، ولم يكترث أحد لجلب طبيب أو حتى دواء يخفف آلامها. وعندما أُجبرت على تحمل صفعات السجان، كانت تعدها كفًا كفًا، سبع كفوف على وجهها، كل واحدة منها كأنها توقيع جديد على جسدها وروحها.
في السجن، كان كل شيء يوجع. وجع في الرأس، ألم في البطن، وخوف يخيم فوق الزنزانة، كما تخيم الغيوم السوداء الداكنة على سماء غزة. كان الخوف سيد المكان، لا يغيب ليلًا أو نهارًا. الزنزانة، التي يفترض أن تكون مجرد أربعة جدران، كانت مساحة مكتظة بالرعب، حيث لا توجد خصوصية ولا أمان، فقط خوف يتنفس معك ويطاردك في كل لحظة.
بينما كانت آيات تعيش هذا الجحيم، كانت أسرتها تعيش في الخارج تجربة اعتقال من نوع آخر. والدتها، التي تحملت آلامًا لا يمكن للكلمات وصفها، تقول بحسرة: «في كل مرة كانت تُعتقل، كنت أشعر أن روحي تُنتزع معها. حين سجنت عشرة أشهر وتعرضت للضرب على رأسها، كنت أشعر أن الألم يتسلل إلى جسدي. وعندما رأيت الفيديو الذي يظهر حالها أثناء الاعتقال، شعرت وكأن قلبي يُمزق».


كان ذلك الفيديو شهادة بصرية على وحشية الاحتلال، لكنه كان بالنسبة للأم طعنة عميقة. «ذلك الفيديو جعلني أُصاب بالمرض لمدة شهرين. كنت أسمع صوتها في ذاكرتي وأشتاق إليها بشدة، ولكن الاشتياق كان يقتلني، كأن سكاكين تُغرس في صدري مع كل ذكرى».
وعندما عادت آيات، لم تكن عودتها عادية، بل كانت محملة بكل معاني الألم والمقاومة. فقدت عينها اليسرى بسبب قنبلة غاز ألقاها جنود الاحتلال عليها. أصبحت ترى بعين واحدة فقط، تلك العين التي باتت رمزًا للصمود الفلسطيني. لكنها لم تعد ترى بعينها فقط، بل بروحها التي حملت جراح غزة كلها. فرح أهلها وأصدقاؤها بعودتها، لكن الفرحة كانت ممزوجة بدموع لا يمكن حبسها.
كيف يفرح أهل غزة بعودة المعتقلين وهم يعيشون في مدينة تخيم عليها سحابة سوداء من الحزن؟ كيف يمكن الاحتفال وهناك موت كثير كثير، وأرواح بريئة تُزهق تحت الأنقاض، وأطفال لم يعرفوا الحياة. أطفال طارت أرواحهم قبل أن ينطقوا أولى كلماتهم؟

فرح مغموس بالحزن
غزة كلها كانت تشعر بذلك الفرح الممزوج بالحزن. كانت عودة آيات وأمثالها لحظة تُنير ظلمة المدينة، لكنها لا تمحو ذكريات آلاف الأرواح التي غادرت، ولا تزيل صور الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولا تخفف من وطأة الجراح التي تركتها الحرب. غزة، هذه المدينة التي تقف على حافة الموت كل يوم، هي صورة مكثفة لهذا الألم الإنساني. حتى في لحظات الفرح، تحمل غزة في طياتها حزنًا عميقًا، وكأنها لا تستطيع أن تفلت من قبضته.
آيات محفوظ ليست فقط أسيرة عادت إلى أهلها، بل هي قصة وطن بأكمله يُسجن يوميًا. غزة، التي تحيا رغم كل محاولات الموت لها، تظل شاهدة على معاناة شعبها وصموده. عودتها ليست نهاية الحكاية، بل فصل جديد في ملحمة طويلة عنوانها الصمود في وجه الاحتلال. رغم كل ما مرّت به، تبقى آيات رمزًا للعزيمة، لحكاية شعب يتحدى القهر والظلم كل يوم. عادت بعين واحدة، لكنها ترى بها أكثر مما ترى العيون المبصرة. ترى وطنًا جريحًا، لكنها ترى فيه أيضًا أملًا لا يموت، أملًا بأن يأتي يوم أقل وجعًا وأكثر إنسانية. في غزة، الحكايات تُكتب بالدموع والدماء، لكنها تحمل دائمًا بذور الأمل الذي لا يموت.

المصدر: “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى