غطرسة القوة الأميركية!
“المدارنت”..
«غطرسة القوة» تعبير انتقاه بعناية بابا الفاتيكان قبل بضعة أشهر لوصف ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي من إبادة وحشية ضد المدنيين العزّل في غزة، وهو ما عاد ليؤكّده مؤخرا حين دان مقتل الأطفال هناك خاصة أولئك الذين جعلهم الاحتلال يموتون بردا وجوعا.
غطرسة القوة التي أسرفت فيها إسرائيل وعلت فيها علوا كبيرا منذ أكثر من خمسة عشر شهرا لا تبدو بعيدة أبدا عن غطرسة القوة التي تجاوزت فيها الولايات المتحدة هذه الأسابيع كل حد، بل هي من علّمتها ذلك في الحقيقة، فعلى منوالها تنسج وبحماية ظهرها تستقوي. الغطرسة الأمريكية ليست جديدة أبدا، فقد خبرها العالم في أحداث عدة، لكنها بلغت مؤخرا من العنجهية درجة غير معهودة وذلك على ثلاثة مستويات على الأقل:
الأول: تخويف العالم بموعد دخول ترامب البيت الأبيض، وهو تخويف يشبه في تبسيطه السخيف تخويف أطفال بشبح خرافي إن هم تمادوا في طيشهم، أو حتى إن هم تمردوا عن موعد خلودهم اليومي إلى النوم. وقد نال الفلسطينيون من هذا التهديد نصيب الأسد، أو بالأحرى نصيب الجحيم الذي سيفتح في وجوههم ووجوه المنطقة برمتها إن لم يتم إطلاق سراح الأسرى والمختطفين الإسرائيليين قبل العشرين من الشهر الحالي. أي جحيم هذا الذي أبقاه نتنياهو لترامب حتى يبتز به ضحايا عدوانه الذي لم يقصّر بايدن في دعمه بكل أنواع السلاح والدعم المالي؟!!. لم يقف الأمر هنا، بل صار على لبنان هو الآخر أن يختار رئيسه قبل قدوم ترامب، ولو أن ذلك جاء في مصلحة اللبنانيين الذين كان عليهم أن يسارعوا بسد الشغور في قصر بعبدا قبل أن يأتي أي كان ليهدّدهم أو يحذّرهم في العلن أو في الغرف المغلقة.
الثاني: الحديث السهل والمرسل عن رغبة الولايات المتحدة في ضم دول أخرى مستقلة. ما قاله ترامب عن كندا وغرينلاند وقناة بنما بدا صادما ومستفزا فالرجل يفترض أنه يتحدث عن دول مستقلة وقائمة الذات، لها مؤسساتها وحكوماتها وعلمها ونشيدها الرسمي وجواز سفرها وعضويتها في الأمم المتحدة. أكثر من ذلك، لم يستبعد الرجل القيام بتحرك عسكري بشأن قناة بنما وغرينلاند اللذين «نحتاج إليهما من أجل الأمن الاقتصادي» وفق تعبيره.
كلام ما كان ليمرّ من دون ردود فعل من كل هذه الجهات فرئيس حكومة غرينلاند ميوتي إيجيدي اضطر للتصريح بأن الجزيرة «ليست للبيع» وأن الأمر متروك لشعبها فهو من يقرر مستقبلها. أما رئيس الوزراء الكندي المستقيل جاستن ترودو فلم يجد ما يصف به تصريحات ترامب سوى بكونها «تكتيكا» لصرف الانتباه عن تأثير الرسوم الجمركية التي يخطط الرئيس الأمريكي المنتخب لفرضها على الواردات الكندية، مؤكدا أنه «لا يوجد أي احتمال على الإطلاق» لأن تصبح بلاده جزءا من الولايات المتحدة، متعهدا أنه سيفرض تدابير مضادة إذا نفذ ترامب تهديداته. أما وزير الخارجية البنمي خافيير مارتينيز ـ آشا فقال إن سيادة بلاده «ليست قابلة للتفاوض» مشدّدا على أنّ القناة «أعيدت إلى غير رجعة».
وقد بلغت درجة الاستفزاز في هذا السياق أن سافر ابن ترامب لزيارة غرينلاند بصفته «مواطنا أمريكيا» لا غير (!!) ودخل الملياردير إيلون ماسك، المؤيد الأهوج لترامب، على الخط بمماحكات بذيئة مع رئيس وزراء كندا.
الثالث: التشريع الأخير للكونغرس المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية الذي أقرّه مجلس النواب ردا على إصدار المحكمة مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير حربه السابق. كان واضحا للغاية أن فرض عقوبات على «أي جهد للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو محاكمة أي شخص محم من الولايات المتحدة وحلفائها» بما يشتمل العقوبات حظر المعاملات العقارية الأمريكية وحظر وإلغاء التأشيرات ما كان يهدف سوى حماية الجرائم الإسرائيلية ومن يقف وراءها، وما التنصيص على «حلفاء واشنطن من خارج الحلف الأطلسي» بحشر دول من هنا وهناك سوى تضليل لم يضلل أحدا.
لم تكتف واشنطن بما كانت فرضته إدارة ترامب في ولايته الأولى من عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية في 2020، ردا على تحقيقات في مزاعم جرائم حرب بأفغانستان، منها التعذيب على يد مواطنين أمريكيين، بل مضت إلى هذه الخطوة الأخيرة لتكريس نفسها، وربيبتها المدلّلة، فوق القانون الدولي بما يشكّل ضربة في الصميم لما صمّمته هي نفسها مع حلفائها المنتصرين في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
إن السعي الفج إلى تقويض المحكمة الجنائية الدولية لا يعني سوى دفع العالم نحو قانون الغاب، حتى يسوده قانون القوة لا قوة القانون، ما يفتح المجال لاحقا بطبيعة الحال أمام دول أخرى لسلك نفس النهج، ولا عذر وقتها لواشنطن وكل الساكتين عن فعلتها للاحتجاج أو التذمر بعد هذه السابقة المعيبة.
تٌحدث الولايات المتحدة حاليا كل هذه الجلبة، وتثير حفيظة وحنق القريب والبعيد، في وقت تتقدم فيه دول كبرى بهدوء وحكمة وأولها الصين، وهنا الفرق تحديدا بين قوة صاعدة وأخرى تطل المؤشرات الأولى لبداية أفولها.