«فتح» في الـ60: هجاء السنوار وإغفال الأسد!
“المدارنت”..
للمرء أن يمنح حركة «فتح»، فضيلة الشكّ في أن تكون الصفحة التي تحمل اسمها على منصّة: “X” ليست الرسمية كما يعلن القائمون عليها، لسبب أوّل هو أنها مكرّسة حالياً، وبنسبة 90٪، للتهجم على قناة «الجزيرة» ووصفها بأقذع النعوت، وتكرار نشر صورة لأقدام تدوس عليها؛ ولسبب ثانٍ يعكسه النهج ذاته تجاه حركة «حماس» والذهاب إلى درجة وصف يحيى السنوار بـ«المهرّج» تارة، و«البستار» تارة أخرى.
للمرء ذاته أن يستعيد خلفية أولى راهنة لهذا الخيار في العنف اللفظي والشتائم المقذعة، مفادها تغطيات «الجزيرة» لما يجري في مخيم جنين من اقتتال فلسطيني ــ فلسطيني، وقرار سلطة رام الله تجميد عمل القناة، في جانب أوّل؛ ولأنّ ما بين «فتح» و«حماس» تاريخ طويل من النزاع والشقاق والاحتراب، في جانب ثانٍ. غير أنّ أياً من عناصر هذه الخلفية، وسواها مما خفي ويُستبطن، لا يبرر الانحدار إلى هذه السوية، النكراء والهوجاء؛ بخاصة في الظروف الراهنة من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وحروب الاحتلال في الضفة الغربية والقدس المحتلة والمنطقة.
مستنكَر، كذلك، تسعير هذا الخيار في توقيت آخر يتطلب الحدّ الأدنى من الأخلاق الثورية والكفاحية والوطنية، أي الاحتفاء بالذكرى الـ60 لانطلاقة الحركة، التي كانت قد تأسست في الأوّل من كانون الثاني (يناير) 1965، بمبادرة من راحلين كبار أمثال ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وفاروق القدومي؛ وكانت، قبلئذ، قد أطلقت مسارات «الكفاح المسلح»، خلال عملية فدائية أولى مطلع 1964، انطوت على تفجير نفق عيلبون في غور الأردن. هذا عدا عن أنّ اللغة المستخدمة في التغريدات ليست هابطة وتحقيرية فقط، بل هي فاحشة أيضاً وبذيئة.
فإذا استعرض المرء ذاته تدوينات «فتح» بتاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 وما بعده، فلن يجد شيئاً يخصّ سقوط النظام السوري وفرار بشار الأسد ومظاهر الابتهاج التي عمّت شوارع سوريا؛ الأمر الذي يتوجب أن يطرح أسئلة جدية حول المزاج الفعلي للصفحة، وهل هي سعيدة بانطواء 54 سنة من استبداد آل الأسد، أم محبطة إزاء الحدث الهائل، أو حتى حزينة! ذلك لأنّ الفرضية الثانية تعززها حقيقة امتناع الصفحة نهائياً عن نشر بيان سلطة رام الله ذاتها، بصدد سقوط النظام.
في كلّ حال، ولأنّ «فتح» هي الحركة الأولى الحاكمة في المقاطعة، لم تعكس تصريحات السلطة سوى نبرة دبلوماسية تقليدية وهزيلة، صدرت وتصدر عن عشرات الحكومات غير المعنية بالتضامن مع الشعب السوري. على سبيل الأمثلة:
1) دولة فلسطين وشعبها يقفان إلى جانب الشعب السوري الشقيق، ويحترمان إرادته السياسية، بما يضمن أمنه واستقراره والحفاظ على منجزاته؛ و2) احترام وحدة وسيادة وسلامة أراضي سوريا، بالإضافة إلى أمنها واستقرارها؛ و3) ولعلها مدعاة الضحك حتى القهقهة: التشديد على أهمية تغليب جميع الأطراف السياسية لمصالح الشعب السوري بما يضمن استعادة دور سوريا الهام في المنطقة والعالم.
وثمة أيام يتعذر على حوليات التاريخ ألا تداولها بين الناس بصدد علاقة «فتح» مع نظام «الحركة التصحيحية»، الأسد الأب، مثل وريثه، عموماً؛ ثمّ بخاصة خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، وعلى وجه التحديد أكثر: في أعقاب الهجمة الكيميائية الأولى والأشنع ضدّ غوطة دمشق، صيف 2013. يومذاك، وبعد أن توجّه بالتعزية إلى دولة الاحتلال برحيل الحاخام عوفاديا يوسف، الذي وصف العرب بـ«أبناء أفاعٍ» ندم الربّ ذاته على خلقهم؛ قرّر محمود عباس رئيس سلطة رام الله، إيفاد شريف علي مشعل (عباس زكي، في ألقاب نضالات أيام زمان!) إلى العاصمة السورية دمشق، للتضامن مع رأس النظام.
«فتح» تظلّ الأبرز والأقدم، وتاريخ التنكيل بشخص ياسر عرفات
من جانب آل الأسد يكفي في ذاته لدفع الحركة
إلى مواقع أكثر تضامناً مع الشعب السوري وانتصاراته
«سانا» وكالة أنباء النظام، نقلت عن زكي تشديده على «تضامن الشعب الفلسطيني مع سوريا في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له»؛ واقتبست قوله إنّ «استهداف سوريا استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل». إلى هذا، لم توحِ الصور الفوتوغرافية بأنّ جفناً قد رفّ في محيّا زكي حين تكاذب الأسد، ومخيم اليرموك يعاني الحصار والتجويع، بأنّ «الأحداث التي تشهدها سوريا لم ولن تغيّر نهج الشعب السوري إزاء أشقائه الفلسطينيين الموجودين في سوريا، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً».
وكي لا تبدو هذه التصريحات وكأنها «مدسوسة» على المناضل الفتحاوي المخضرم، أو «منتزَعة من سياقاتها» كما جرت العادة في أصول التنصّل من الأقوال؛ أكمل زكي دقّ المسمار إلى النهاية، فالتقى مع مندوب «جراسا نيوز» في العاصمة الأردنية عمّان هذه المرّة، عقب عودته من دمشق، وأكمل ما استحى إعلام النظام السوري ذاته من نسبه إليه. ففي ملفّ «العدوان» ــ الذي يتعرّض له النظام السوري، وليس غزّة أو رام الله أو المسجد الأقصى… ــ شطح زكي هكذا: «دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سوريا التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه».
هل تناسى زكي يومئذ، هو الذي درس في دمشق وتخرّج من جامعتها، ثمّ هل تتناسى صفحة «فتح» الرسمية اليوم؛ دلالات وجود جحيم أمني مخصص اسمه «فرع فلسطين» منفرد في شراسة ضباطه وهمجية أساليبه؛ تكفّل بترويع فلسطينيي سوريا، قبل أن يوحّدهم مع أشقائهم السوريين في الترهيب والتنكيل والتعذيب؟ هل جهل الفتحاويون مشاركة حافظ الأسد، شخصياً، في التآمر على المقاومة الفلسطينية أثناء جولات «أيلول الأسود» ثمّ شنّ الحرب عليها بعدئذ في لبنان، مباشرة أو عن طريق وكلاء محليين؟ هل غفلت ذاكرتهم عن حصار المخيمات، وحصار بيروت، وحصار طرابلس…؟ ومَنْ يعلّم ابن «فتح» ربما أكثر من سواه، مجلدات ومجلدات في تاريخ غدر آل الأسد بالحركة، وذلك منذ عام 1964؟
غير أنّ زكي، على شاكلة غالبية قيادات «فتح» الراهنة، هو صوت سيّده عباس، الذي يندر أنه أخفى عواطفه تجاه آل الأسد؛ ويندر، أكثر، وعلى مستوى جوهري أعمق، أنه أفلح في تمثيل كرامة الشعب الفلسطيني على نحو مشرّف. والقبلات التي تبادلها زكي مع الأسد سنة 2013، سبق أن تبادلها سيّده مع الدكتاتور نفسه، مطلع العام 2007؛ في مسعى من عباس لطرح الزيارة بضاعةً في اسواق التبادل الأمريكية ــ الإسرائيلية، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق.
تبقى إشارة إلى أنّ الفصائل الفلسطينية المتواجدة على الساحة السورية، والمتعاطفة مع النظام السوري البائد و/أو المناصرة له، عديدة ومتشعبة من حيث التاريخ والعقائد والتكوين التنظيمي؛ وهنالك 14 فصيلاً، لا تبدأ قياداتها من أحمد جبريل ولا تنتهي عند زياد النخالة. «فتح» مع ذلك، تظلّ الأبرز والأقدم، وتاريخ التنكيل بشخص ياسر عرفات من جانب آل الأسد يكفي في ذاته لدفع الحركة إلى مواقع أكثر تضامناً مع الشعب السوري وانتصاراته وتحدياته؛ ليس سياسياً ونضالياً فحسب، بل أخلاقياً على الأقلّ، وبادئ ذي بدء.