مقالات

فلسفة الغرب الإستعمارية..! الجزء (1-4)

د. عبد الناصر سكرية/ لبنان

خاص “المدارنت”..
قبل حوالي قرن من الزمن، أصدر المفكر البريطاني، كولن ويلسون، كتابًا مهمًا أسماه سقوط الحضارة، تحدث فيه بإسهاب عن الأسس المادية وحيدة الجانب للحضارة الغربية، مبيّنا ما فيها من خلل، ومتوقعًا لها الإنهيار التام في وقت غير بعيد.
ومنذ ذلك الزمن، ومظاهر السقوط الحضاري لدول الغرب تتوالى، ليست الحرب العالمية الأوروبية الثانية إلا واحدة من أبرزها، فقد قتلت دول الغرب من أبنائها ما يربو عن 40 مليون إنسان في صراعاتها على المصالح الرأسمالية المادية..
وها هي المعبرات عن ذلك الإنهيار تتوالى، فبعد كل الدعم والتأييد والتبرير الأمريكي والغربي لممارسات دولة العدو الصهيوني في فلسطين، وما فيها من إبادة جماعية وتدمير كل مظاهر ومتطلبات الحياة بما فيها المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس ودور العبادةـ وحتى خيام إيواء المهجرين النازحين قسرا من بيوتهم، المدمرة بفعل عدوان المحتل الصهيوني، حتى تعمد قتل المدنيين وقتل الرضّع والأطفال والنساء والشيوخ والعجائز بدم بارد، وتعمّد تبريره مفاهيم دينية مزيفة همجية عنصرية؛ نسمع تشريعا مباشرا صريحا لقتل المدنيين.
فلم يكن تصريح وزيرة خارجية ألمانيا، قبل أيام، مثيرا للإستغراب، لمن يعرف تاريخ الغرب الإستعماري ويعي المنطلقات المادية اللا أخلاقية، للفكر الغربي الرأسمالي الذي يهيمن في الغرب الأوروبي والأمريكي منذ خمسة قرون، ما أثار إستغراب البعض أن مثل هذا الكلام يخرج إلى العلن دون مواربة ودون تلفيق مبررات تغطي سوآته وإجرامه، درجت دول الغرب الرأسمالية على محاولة إخفاء مقاصدها العدوانية، حيال شعوب العالم التي تخضع لإحتلالها؛ بتبريرات متنوعة حسب طبيعة كل مرحلة وظروفها وحسب الخلفيات الثقافية – الإجتماعية للشعوب المقهورة المعنية، تبريرات من مثل الدفاع عن العالم الحرّ أو الدفاع عن الحضارة الإنسانية أو نشر الحداثة، وما بعد الحداثة، ثم أخيرا وليس آخرًا، محاربة الإرهاب الديني وجوهره الإسلامي، مرورا بنشر الديموقراطية وثقافة حقوق الإنسان والحرية الشخصية، ومسميات أخرى مثل حقوق المرأة والجندرية والمساواة وحرية التجارة العالمية..
أما وزيرة خارجية المانيا، فقد أعلنت صراحة، أن قتل المدنيّين في فلسطين ولبنان حقّ مشروع من اجل محاربة الإرهابيّين..
وعلى الرغم من أن قتل المدنيين في الحروب عمل مدان ومرفوض في مواثيق المنظمات الدولية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، كذلك في الإتفاقيات الدولية المتعلقة بالصراعات المسلحة والنزاعات العسكرية بين الدول، ومنها إتفاقية جنيف وغيرها
وعلى الرغم أيضًا، من أن الدول الغربية الأورو – أمريكية، هي التي صاغت تلك المواثيق والإتفاقيات والعهود بعيد إنتهاء الحرب المسماة زورا: العالمية الثانية، فيما هي كانت حربا أوروبية بحتة سقط فيها ضحايا كثيرون من أبناء الشعوب التي كانت تحت إحتلال أي من تلك الدول؛ إلا أن تلك الدول ذاتها، هي من ينتهك نصوص وبنود تلك المواثيق المتعلقة بإحترام المدنيين وتحييدهم.
قد يتفهم الإنسان سقوط مدنيين أثناء الحروب؛ أما أن يتم تعمد قتل المدنيين، فهذا ما يشكل خرقا خطيرا لتلك النصوص وللمنظمات الدولية وكل ما ترفعه من شعارات ولكل ما تمثله للضعفاء والمغلوبين والمقهورين من أبناء المجتمعات الإنسانية، كما للمدافعين عن حقوقهم في تقرير مصائرهم بحرية، وحق تقرير المصير هو بذاته بند أساسي في تلك المواثيق بإعتباره حقا لكل الشعوب التي تعاني من الإحتلال..

أن يعلن مسؤول بارز في أهم دولة أوروبية صراحة، “مشروعية قتل عامد متعمد للمدنيين في فلسطين ولبنان”، من قبل قوات العدو الصهيوني، بحجة الدفاع عن النفس؛ فهذا سقوط أخلاقي مروع ينزل بالأمم الغربية، ومنطلقاتها الفكرية وخلفياتها الثقافية إلى حضيض الفكر اللاإنساني المتعفن المهترئ، لا بل يشكل هذا الخطوة الأخيرة في تمام إنهيار “حضارة” الغرب، رغم كل التفوق العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي يوظف نظام الراسمالية المعولمة المفترسة؛ القسم الأعظم منه، اي من التقدم التكنولوجي والعلمي، في تدمير الحضارة الإنسانية وقتل الإنسان وتدمير مجتمعات بأكملها سواء بالإغتصاب أو بالإحتلال أو بالحروب المباشرة المفتعلة أو بالتخريب الداخلي وإثارة الفتن وكل أنواع الإنقسامات والنزاعات والتناقضات..
ليس في هذا جديد، فتاريخ الغرب كله قائم على نهب ثروات مجتمعات العالم، وإستخدامها لصناعة التقدم المادي والرفاهية المعيشية في مجتمعاته هو، أوصله هذا إلى الإستعمار بما فيه من إحتلال عسكري مباشر، وهيمنة سياسية وإقتصادية وقهر ثقافي ونفسي وإجتماعي، ومع ظهور حركات شعبية تسعى في سبيل تحرير بلادها ومجتمعاتها من الإحتلال؛ طورت دول الغرب الإستعمارية من وسائل سيطرتها، ومن إمكانياتها العدوانية والتخريبية لقمع تلك الحركات، وإبقاء سيطرتها بل وتوسيعها لتشمل كافة ميادين العمل والحياة..
زادت من قدرتها على تفجير الحروب بما تمتلكه من إمكانيات هائلة، وخبث أكثر هولا ونزعة إجرامية للسيطرة والقهر والإستغلال لا مثيل لها في التاريخ البشري كله..
إستخدمت ببراعة متناهية وسخرت كل العلوم الإنسانية والإجتماعية، التي تقدمت أشواطا كبيرة بعد الحرب “العالمية” الأوروبية الثانية؛ سخرتها في إمتلاك معرفة تفصيلية دقيقة ومعمقة بخفايا وخلفيات البنية الإجتماعي – الثقافية، لشعوب العالم ومعرفة ثغراتها ونقاط ضعفها؛ من أجل فرض مزيد من الهيمنة والقهر عليها، بعد أن إمتلكت إمكانيات متقدمة في إثارة النزاعات وتفجير الحروب، سيما وأنها تملك وتوجه القسم الأعظم من الإعلام العالمي، وما يتفرع عنه من مصادر لصناعة المعرفة والوعي وإغتصاب العقول والنفوس..
ليس في هذا جديد أيضا.. المهم انه ينبغي أن يضعنا في مواجهة الأسس الفكرية والمفاهيم الثقافية التي سمحت وتسمح للغرب المتقدم؛ بأن يتدهور إلى الدرك الأسفل من الإنهيار الأخلاقي الذي لا نزول تحته، وهو الأمر الذي يضع كل حضارة الغرب ومفاهيمه موضع شكوك، ينبغي أن تثور في وجهها لتحديد مكامن الخلل فيها، ومصادر ذلك الإنحطاط الحضاري وأسبابه..
من البديهي، القول أن سلوك الإنسان يحدده ما في عقله من فكر وما في ضميره من محددات وضوابط أخلاقية، وما تحتاجه مصالحه من كسب وإمتلاك وأرزاق، شرط أن تبقى منضبطة في إطار المقبول أخلاقيا والمشروع إنسانيا والمطلوب حضاريا..
من حق وواجب كل مجتمع أن يفكر في إمتلاك كل أسباب التقدم والتطور والقوة التي تحميه؛ أما أن يعتدي على غيره ليسرقه ويقتله وينهب إمكانياته ليستخدمها في تنمية بلاده وصناعة تقدمها؛ فهذا عمل غير مقبول بل مرفوض ومدان في كل شرع وكل دين وكل قانون وكل نظام آجتماعي، وكل نظريات العمل وكل مواثيق المنظمات الدولية..
فكيف حصل هذا في الغرب فتحول إلى قوة إستعمارية ثم إمبريالية لا تتورع عن قتل الملايين وتدمير المجتمعات وإحتلالها؛ وما هي خلفياته الفكرية التي أباحت له كل هذا؟!
ما هي منظومة “القيم” التي تبيح له ما فعله، ويفعله في كل يوم من عدوان وسلب ونهب وتخريب وإفساد أينما كان وأينما حل وإرتحل؟!

(يتبع)
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى