تربية وثقافة

في كل مساء أعود إلى قلبي..

الروائي شعيب حليفي/ المغرب

“المدارنت”..

الوصايا المدهشة

.. لا تكتبْ ما لا يُروى، ولا تَروي ما يُكتب. ارفعْ رأسكَ واكتُبْ سِرّك ودُقَّ الأوتاد. اكتُبْ بدون أن تكتب. وإنْ كتبتَ فلا تجعل وعاءَكَ من ذهنك فتتعب. اجْرَعْ دائما، من ماء وَجْدِكَ وغبار الزمن. لا تكتُب إلا ما جاء في صُحفنا وما قلناه في خاطرنا. إذا نَفَد منك وَحْيُنا فاصمتْ ولا تجادل. أوصيك بالنهر لا البحر. باللحظة التي أنتَ فيها.. لا التي تنتظر. ها قد غفوتَ فنسيتَ، ودنوتَ فبعُدتَ وكتبتَ فمحوتَ. ها هو التراب، إنّ بين ظني ويقينهم لسراب. ها هو الطوفان، سيخرج من زمننا  آخر العجب. فلا تغْفُ ولا تدْنُ واكتُبْ ما لا يُكتبْ. وإذا فقدتَ أمك فاغتربْ.
مولانا نسعى رضاك.. على بابك واقفين.. لا من يرحمنا سواك.. يا أرحم الراحمين.

الآن
في كل مساء أعود إلى قلبي أفتشُ عنكِ، فأجدك تهيئين لي الشاي الذي لم يكن مهمّا، كما كنا نقنع أنفسنا، ولكن ما سنتحدث فيه هو الأهم.. لأنه ببساطة حكاية طويلة لا نهاية لها ولا أحد فينا يعلم بدايتها. البدايات دائما جميلة لأنها خلفنا، والنهايات ذكرى ضرورية لكن طعمها مرّ. فقط أخمنُ أنها ابتدأت من حليبكِ الذي لم أشأ الاستغناء عنه إلا بعد حولين كاملين. منحني ذلك البياض الجذري والحاسم خلف لوني الأسمر المتبقي من الخلق الأول لنا. لم أفقد مذاق حليبك على مرّ كل هذا الزمان أرتوي منه كلما عطشت وأقتات كلما جعت. كأنه نهر في داخلي وأنا تراب.

ـ مساء الخير أمي، كيف أنتِ في وحدتك؟ أقول لك.

ـ بل كيف أنتَ.. أما زلتَ حزينا بعدما تركتُك ؟ تقولين لي.

ـ لا تهتمّي أمي لأمري. أستطيع أن أخبّئ جروحي في جيوبي الخلفية وأواصل.

ـ كنتُ في كل صلاة، وفي كل الأوقات، أدعو الله أن يأخذني قبلكم. كنتُ أفكر في نفسي كي لا أتعذب بعدكم.. ولكني سهوتُ، يا بُني، أني تركتُكَ وحيدا.

ـ كنتُ بدوري أدعو الله أن يبقيك ويأخذني إليه. ها هو قد استجاب لك وحدك. ألم أقل إنك ولية ربي، دعواتك يُستجاب لها. وما حزني الآن إلا أنك وحيدة هناك.

ـ لستُ وحيدة. عدتُ تحت حكم والدك محمد بن عبد السلام في رياض واسع، نعبد الله ونتحدث عنكم.

ـ ما قال لك بويا؟

ـ قال إنك صرتَ شرسا، بعد غيابه، فاقدا لصبرك الذي علمك أسراره.

ـ لا تهتمّي، أمي، ذلك من آثار الزمن. مات بويا فعدتُ إلى وصايا جدي عبد السلام الذي حارب في الشاوية، ولما بلغ الدم حدوده القصوى وصارت حياته رهانا للخاسرين، حمل روحه وتوجه إلى عبدة واحمر في حروب أخرى شعر معها بطمأنينة الحياة، ليعود إلى موطنه بروح جديدة. وأنا، في كل حياتي، لا أكتب إلا عن تلك المساحة التي أغفلها المؤرخون وعن ذلك الصمت الشامخ.لماذا لم يفهموا أنني غير معني بالكتابة عن شيء آخر خارج هذا الرقعة وهؤلاء الذين هم شجرة أنسابي.

ـ إنه يسأل عنك كثيرا ويسألني وينسى، ثم يعود إلى السؤال.. كأنه خائف عليك من شيء ما، كان يريد أن يبقى بالقرب منكم.

ـ ومن قال إنه بعيد عنا. أنا أجيد الحياة في كل العوالم.

ـ قلتُ لكَ يوما سنكون ذكرى.. لا تنسَ أنني رأيتُ ثلاثة أحلام لكَ وحدك، قلتُ لك، منهما في حياتي، حُلمين، وسأقول لك اليوم الحلم الثالث.

ـ لا تقولي شيئا. الأم هي نتيجة اشتباك جميل بين الحلم والواقع.

ـ قبل أن تكون نطفة في بطني رأيتُ والدك بلباس أبيض، في حلم سريع، يمدُ إليّ، وهو يبتسم، حبة زبيب كبيرة، سمراء مثل لونك. أسرعت إلى تذوقها، كانت حلاوتها لا تشبه أي حلاوة ذقتها في حياتي. الحلاوة نفسها أشعر بها ونحن نتحدث معا.

ـ الأم دائما تسعى إلى أسطرة ما حولها.

ـ الحكمة المغلقة لا تليق بك. الحلم الثاني وأنتَ جنين، كنتُ أرى كل يوم خميس نورا في بطني، فأقوم وأنا مستعجلة خروجك إلى الدنيا.

ـ نولد زبيبا ونورا فيجعلنا الزمن علقما وظلاما. نصارع كل هذه الحياة لنحمي جوهرنا الأول.

ـ لماذا بدأت تفقد صبرك. كن رحيما وحذرا. هل تعرف ما معنى العبقرية؟

ـ العبقرية هي أنتِ في الوجود.

ـ العبقرية هي فن الصبر الطويل.

ـ ليتني كنتُ حكيما وأميا مثلك. ليتني كنتُ مثل بويا فارسا وأميا. ليتي كنتُ محمد وصالح وإلياس ويونس، ليتني بقيتُ نطفة نائمة فيك ومنك، ليتني.

ـ بعد طلوع روح سيدي محمد بن عبد السلام إلى الملكوت الأعلى، ظلت الطمأنينة في نفسي لأنك موجود بجانبي، لم أشعر يوما بالخوف وبدأت أرى حلما يتكرر متباعدا كأنه يُذكرني بشيء ما.

ـ لا تقلقي أمي، حولي حفدتُك وذِكراكما. إسمعي إلى ما أرويه لك: قرأتُ مؤخرا كتابا كتبته سيدة فاضلة عن والدها، وهي بالمناسبة في مثل سنك. وبعد ذلك التقيتُ بها وتحدثنا عن والدها الذي كان وزيرا ومحاميا كبيرا وعاش في عالم عجيب مع رجال يذكرهم التاريخ. وفي كل اللحظات التي قرأتُ فيها الكتاب أو التقيتُ بها. تذكرتك أنتِ الأمية التي عاشت في هامش العالم، وبويا الذي كان فلاحا وفارسا في تاريخ لا أحد يعرفه.. لهذا شعرت بفخر كبير فوق اعتزازي بكما وبعالمنا الذي ننتمي إليه.

ـ الحلم الثالث أني كنتُ أراك وأنا أنادي عليك بأسماء كثيرة.. فكنتَ تبتسم وتأخذُ يدي وتقبلها طويلا.

ـ أنت تريدين إيهامي بأننا سنعيش في أكثر من حياة أخرى. لا بأس، تعرفين أني أصدقك في كل شيء، ولكنني في كل حياة سأكون الشخص نفسه الذي يثأر للحياة السابقة.

ـ لا تكن حزينا. لا تكن عنيفا وقاسيا فتختفي منك تلك الرحمة التي زرعتها فيك.

ـ أمي. ليت الليل يبقى ممتدا إلى الأبد، ويكون النهار غرفة جانبية أنت شمسها. ليت جنتنا تكون شاوية، بطيورها اللعوب التي تحلق عاليا لتنظر إليّ محدقة بعيونها المسطرة بكحل شغوف. بفجرها الذي خرج من شغاف قلبك الشفيف. بسُفنها المحملة، منذ قديم الزمان، بنوايانا وأولى الكلمات والقبلات والأخطاء والضحكات والدموع والخطوات.

ليتني أموت كل يوم صباحا ألتقيك، وأحيا مساءً أستكمل مشاغل الدنيا مترقبا الفجر المقبل.

النفس

لم تكتشف، طوال حياتك، أنكَ هشّ مثل فراشة في سماء بيضاء ساكنة، تنظر إلينا. فراشة بجناحين تصعد روحها البيضاء كأنها نسيج من غيم لا ينقطع، تصعد في العشرين من الربيع وتبقى مندهشا، وقد أحسستَ أن الدهر قد شقّك إلى نصفين بضربة واحدة.

هي آخر الوليّات الصالحات الطاهرات. عاشت لتسعين حولا خلف حجاب، تعبد الله وتخدم سلالة الشاوي في محطات أثرها باق في الأرض وفي السماء.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى