تربية وثقافة

قراءة في لوحة سيف صلاح/ العراق..

خاص “المدارنت”..
في اللون وأدواته
ليس اللون مجرّد تقلّب درجات وتفاوتها بسبب مزيج، ينتج عن بعض عناصره الأساسية فقط.
وليست الريشة مجرد شعيرات، تتكفّل بنشر الألوان فوق مساحات فارغة.
وليس الرسم يد تضبط إيقاعات اللون، وتعرف كيف توائم بين عناصر اللوحة ومستوياته وأبعادها فقط.
إنها جميعها أعمق وأعلا بكثير من التبسيط الذي تستسهله عين المتذوق، التي تقف أمام اللوحة لدقائق، ثم تنزاح.
إنها انفعالات وأسئلة ومشاعر وذاكرة ووجدان ومخيلة ومسيرة حيوات، تداخلت، وتقاطعت، وتلاقت، وتنافرت، لتصدم عين المتلقي بمحتوى، يجعله يتفاعل، ويعي، ويدرك، ويبدأ من اللحظة، لحظة الصدمة تفكيك أشياء ودلالات وإشارات كثيرة، ويطرح أسئلة، ما كانت لتستيقظ فيه لولا صدمة اللون، وتفجّره.

السرد في اللوحة
مشهد عراقي عميق وقاس في لوحة المبدع سيف صلاح.
سماء ليست كأيّ سماء، وطريق لا تسمح بالالتفات إلى الخلف، وأسرة تحاول المغادرة بأثمن ما تبقى.
يرى المتأمل لوحة لأسرة تتكون من أربعة أشخاص: أبوين وطفلبن.
غير أنها سرديًّا من خمسة أفراد أبوين وثلاثة أطفال.
تسير الأسرة باتجاه واحد، غير أنّها تختلف في توجّهاتها صوب النجاة. إذ يعاني الرضيع من البؤس على الرغم من الأمل الذي كساه به المبدع سيف، وأقصد به اللون السماوي. وقد ظلت نظرته تغوص في حاجاته، التي لا يعي التعبير عنها بغير الخوف والبكاء.
وتنظر الزوجة الأم بتعب ولوعة، بدت على وجهها المنفعل تحت الغطاء الأسود فوق رأسها والجسد. هذا الرداء الذي لم يعد يرمز إلى وظيفته الدينية كحجاب، وبات رمزًا للموت والحزن والقوقعة والعزلة التي عانت منها المرأة العراقية جرّاء حروب الذكورة التاريخية. وهو إشارة إلى اتصال لا ينقطع بين الموت والبؤس والحزن، ومنذ أن بدأت القطيعة بين الأرض والسماء.
تسير أمامها طفلة تعتل على ظهرها كيسًا، نعلم جميعًا ما بداخله، تمشي وتحدّق بطريق، تجهل اتجاهها، ولا تعرف إلى أين تؤدي. ترتدي ثوبًا بدأت تغزوه بقع السواد، ثوب تنحسر فيه المساحات البنية، انحسار التراب الآمن في وطن تفر منه. تتمسك بحملها وصمتها، فبين الصمت وما تعتل تناسب وتناسق في العلّة والنتيجة.
أما الأب فقد بدا يخطوا متعجلًا، يعكس ذلك ارتفاع قدمه اليمنى. يرتدي كفنًا لا ثوبًا أبيض، وقد طوق بذراعيه طفله الثالث الوطن. وقد تمثل بلوحة ساحة التحرير في بغداد، وما فيها من دلالات ورمزية من حيث المكونات واللون الترابي والمضمون التاريخي الرامز إلى وعي الأب بطريقة حمله لهذا الطفل، فقد ضمه، ووضع الجزء العلوي من اللوحة جهة القلب.
تبدو الزوجة مستاءة من استعجال الأب في سيره، وقد ظهر على الطفلة حرصها على البقاء في مقدّمة الراحلين. فالأطفال أكثر من يدفع الأثمان في الحروب، وحده الأب كان يعي لمَ عليه أن يستعجل السير، ويكاد يهرول، ذلك لأنه يريد النجاة، وإنقاذ ما تبقى من وطن، فاللوحة التي يحمل أعظم وأهم ما تبقى له، لذا حملها بنفسه.
إنها مشهدية تختصر أبوة العراقي لوطنه وطفولة ترابه فوق صدر يضج بالمآسي، لذا هرول يضطر إلى الفرار بأجمل ما ظل منه: العائلة والتاريخ الذي يصعب إسقاطه والحياة.

في التكوين والتأليف
تكونت اللوحة من عناصر لونية ثلاثة: الحزن، وقد تمثل بالأسود في السماء وملابس الزوجة وثوب الفتاة، والموت الذي تمثل بالأبيض في ثوب الأب الهارب بوطنه لأجل أبنائه. والوطن المتمثل بالبني في الطريق واللوحة وثوب الفتاة.
ولا شاهد على أمل العودة إلا أعمدة لا ضوء فيها، ولباس الطفل الأزرق.
يعكس البعد التأليفي للوحة بشكل عام رؤية الكاتب لمستقبل الإنسان في وطنه عبر الجزء الخلفي ولونيّته، التي تعكس انعدام الحياة، واللا عودة واللا شيء في وراءٍ، أفرغ من كلّ محتواه. وقد خصّص الجزء الأمامي من اللوحة لأسرة هاربة من الموت والجوع والخوف واليأس.
لقدم الإنسان على سواه، بما فيه من مشاعر وممتلكات ولباس، ومستقبل انعكس بحضور الطفلين، وبماض انعكس بالأم وزيها في الخلف، والأم العربية غالبًا تبع، لا رأس. وبحاضر انعكس بحركة الأب الراكض، دلالة على سرعة الحاضر في الانقضاء.
تتحرك اللوحة بمقدمتها بإيقاع الحياة في كل منهم. فتفر ألوان المقدمة من ألوان الخلفية، التي تنأى بانسجام، يّبلغ المتلقي بكثافة الرسالة والمشاعر والأزمة، التي أراد المبدع سيف صلاح اختصارها فوق قماش، لا أعرف مساحته.

فلسفة الإبداع
يؤكد لنا هذا المبدع العراقي أن خلو اللون من الفلسفة يسقط عنه تأثيره وبهاءه والاختراق. إذ ينبغي أن يظل السؤال أعظم وظائف الإبداع، وكلّما ازدحمت اللوحة بالأسئلة كلّما تمكن الإبداع من الذائقة الجمالية التي تنشدها الروح البشرية وكساؤها المجسد.
أخيرًا تمكن سيف صلاح من الريشة واللون والحركة والسؤال والحكاية والمتلقي معًا، فأمتعنا وأدهشنا.

عمر سعيد/ لبنان
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى