قصة رقم “2”.. “ساعة جنون على نهر الليمون”..
خاص “المدارنت”..
كانت الرحلة من مايكاو الى ماراكيبو شرا لا بد منه، لمن اضطر للسفر او التنقل بين البلدين المتجاورين: كولومبيا وفنزويلا، بينما كانت لدى الصديق”أبي قاسم” رحلة روتينية؛ فهو مطلع على كل شاردة وواردة على الطريق شبه الصحراوي، وهو معروف عند رجال الأمن الفنزويليين العاملين على الخط، على اختلاف تشكيلاتهم، من شرطة وجيش وجمارك وأمن عام، بدءا من نقطة الحدود القريبة التي يصل إليها المسافر في غضون عشر دقائق مرورا بالحواجز الثابتة و المتنقلة التي يزيد عددها بحسب الأوضاع الأمنية.
وكانت بداياته، مع سيارات الأجرة التي صار يعرف أصحابها، ما ساعده أن يختار من بينهم الأفضل والأرخص سعرا، يساومهم ويتفق معهم على أدق التفاصيل قبل استقلال السيارة، وهو الخبير بما يقومون من ألاعيب وأساليب حقيرة، في استدراج واستغلال الزبائن، ما لم يكونوا قد ابرموا اتفاقا معهم.
حكايات وروايات لا تنتهي، تجدها على لسان كل مسافر عربي، ذاق مرارة سفر 110 كم، وفترة زمنية تستغرق ساعتين على الأقل؛ ولكل مسافر قصة، وفي كل قصة ألف غصة، يحدثك عن توقيفه واستجوابه عند نقطة “نهر الليمون” RIO LIMÓN.
انطلقنا صبيحة يوم الخميس عند السابعة صباحا، أربعة اشخاص، خالد وأحمد وأبو قاسم وأنا، من دون أن نتدخل في تفاصيل تكاليف الرحلة مع السائق، لأن ذلك الأمر كان من ترتيب “أبي قاسم” لوحده، يرفض أي نقاش أو اعتماد اي خيار آخر فيما تعلق بالسائق او بالسيارة، فهو يختار سائقا من ذوي الثقة المعروفين منه، ومن ذوي العلاقات المتينة مع رجال الأمن، ويتفق معه على الحد الأدنى للتكاليف المادية للرحلة، ونحن ندفع ما يتوجب على كل منا؛ والويل إن اعترض أحد منا على شكل السيارة او السائق.
بعد عشر دقائق تقريبا، انهينا ختم جوازات سفرنا عند الأمن العام الكولومبي، وانتقلنا إلى مركز الأمن العام الفنزويلي القريب، مع تشديد “أبي قاسم” ألّا نمد يدنا إلى جيوبنا من دون مشورته، مكررا عدم اعطاء المال لأي رجل أمن، لأنهم لصوص مبتزّون، ولا تجوز عليهم الشفقة! وكان رفيقنا “خالد” قد رتب الامر داخل مركز الأمن العام، حيث وضعت اختام دخول إلى فنزويلا، بينما كنا نشرب ماء جوز الهند الطبيعي البارد من أحد الباعة المتجولين قرب المركز الحدودي.
وهكذا، من نقطة تفتيش إلى أخرى، سارت الامور على ما يرام، حيث كان السائق يقوم بتعريف رجال الأمن عنا، بوصفنا تجار عرب معروفين منه شخصيا، ومن ذوي السيرة الحسنة؛ فيما كنا نتوقف بين الحين والآخر على جانب الطريق، للتزود بالماء البارد، وشرب عصير قصب السكر الطبيعي، دون أن يعكر صفونا حدث سيء، إلى أن وصلنا إلى نقطة: “نهر الليمون”، وكانت المفاجأة بانتظارنا!
رتل طويل من السيارات، وركاب يحبسون أنفاسهم في انتظار فرصة المرور بسلام، وأفراد من الحرس الوطني يتجولون بين السيارات ويمنعون الركاب من الترجل، تجنبا لهروب أحد من التفتيش وفحص الأوراق الثبوتية، بينما كانت تمر أمام ناظرهم بعض سيارات الدفع الرباعي ذات الزجاج الداكن، من دون توقف، وأصحابها من الضباط الأمنيين او من المحظوظين المعروفين.
ومع وصولنا إلى نقطة تمركز رجال الأمن، والأفكار السوداء تجوب في مخيلتنا، لمعرفتنا أنه لا مثيل لنقطة “ريو ليمون”، من حيث الإفتراء وابتداع الإتهامات، وقلة احترام المسافرين عموما؛ وإذْ بضابط معروف لدى مرتادي الطريق بال “غوردو” أي السمين، هو من يتولى التدقيق في وثائق المسافرين.
وقد بادرنا بالإرهاب، قائلا: أهلا بالعرب! وأمرنا بالترجل الفوري من السيارة وإبراز جوازات السفر والهويات، التي أخذها منا على الفور، مبتدئا بجواز سفري، الذي وضعت في داخله بطاقة الصحافة، قائلا: أنت لبناني صحافي، لديك تاشيرة سياحية إلى فنزويلا، فأجبته بالإيجاب، ثم انتقل ليخاطب أحمد: جواز سفر فنزويلي، يعني عربي فنزويلي، فأجابه: أجل، فنزويلي مثلي مثلك! ما أثار غيظه. ثم خاطب “خالد” بقوله: جواز سفر كولومبي، يعني عربي كولومبي، وتوجه بعدها بالكلام إلى “أبي قاسم”، وهو يبتسم: أما أنت يا أسود (وكان ذا سمرة شديدة)، فلست بحاجة إلى معرّف، أنت زبون دائم عندنا، لا تكاد تختفي قدماك حتى يطل رأسك! أكاد أجزم أن لك زوجة في مايكاو، وأخرى في ماراكيبو؛ فردّ عليه عابساً: دعنا من مزحك الثقيل اليوم، الشباب معي، حاول الإسراع في التدقيق.
طلب منه التريث قليلا، نظرا للتشديد غير العادي دون اطلاعنا على السبب الداعي، وأبقاه مع “خالد” إلى جانبه، بينما طلب من بعض مساعديه مرافقتي إلى مكتب الضابط المسؤول، ومن مساعد آخر لمرافقة ” أحمد” إلى غرفة تفتيش في الداخل، مرددا بغضب: فنزويلي مثلي مثلك؛ سترى ذلك بعد قليل!
في غرفة مبردة، تناول الضابط جواز سفري وصار يقلبه في كل اتجاه، وأمعن النظر في بطاقتي الصحافية، وبدأ يسألني عن عدد المرات التي سافرت فيها إلى فنزويلا، وعن المعابر الحدودية التي دخلت منها، وسألني باهتمام عن رفاق الرحلة، فأخبرته أن أحوال اثنين منهم سيئة ماديا، والثالث هو الوحيد بيننا، الذي يملك محلا تجاريا في مايكاو.
وفجأة، ومن دون مقدمات، انتقل بالحديث معي إلى سؤالي عن القضية الفلسطينية، وجريمة اغتصاب أرض الفلسطينيين وتوطين اليهود مكانهم، قائلا: لا تستغرب، أنا ضابط خبير خطوط وبصمات وأختام، تعرفت على ضابط من دولة تشيلي من أصل فلسطيني، أثناء اشتراكنا في دورة تدريبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شرح لي مختصر تاريخ الصراع العربي/ الإسرائيلي؛ ولذلك تراني مهتما، واريد منك توضيح بعض النقاط.
وفي خضم الحديث عن الموضوع الفلسطيني، سمعنا طرقا على الباب، وإذ برجل أمن يطلب السماح بالدخول للرفيق “أبي قاسم”، الذي جاء يطلب المساعدة في الوصول إلى اتفاق مع “الغوردو” الجشع، بعدما طلب منه مبلغ أربعة آلاف بوليفر، وليخبرني أنه لن يقبل الإبتزاز، ولن يدفع أكثر من مئتي بوليفر ثمن فنجان قهوة، مهما كانت النتائج.
أخبرته سريعا بما دار بيني وبين الضابط المسؤول، وسعادتي باهتمامه ونصرته للقضية الفلسطينية، فأجابني بلهجة فلسطينية محببة: “هلق صار بدكم تحلوا قضية فلسطين؟ خلينا نحل مشكلتنا بالأول؛ انت جالس تتحدث بالسياسة ونحنا عم نحترق في الخارج”.
وسرعان ما شرحت الوضع للضابط، الذي كان يؤكد لي استعداده لمساعدة أي شخص عربي في مجال الوثائق والمستندات في فنزويلا، وأنه لا يريد أي بدل مادي، ناصحا بتسوية الأمر مع “الغوردو”، المعروف بحبه الشديد للمال.
واستأذنته بالخروج، لأجد رفيقنا “أحمد”، يستظل في فيء شجرة، وتبدو عليه علامات الحزن والغضب، ثم علمت انهم ادخلوه إلى غرفة تفتيش صغيرة وجردوه من ملابسه وتركوه عاريا داخل الغرفة، عقابا لما اعتبروه استفزازا وتعاليا عليهم، حينما اجاب أنه يوازيهم بحمل الجنسية الفنزويلية؛ وقد نجا من محاولة تلفيق تهمة جاهزة،ومن سجن مؤكد.
حينها كان “خالد” ينتظرني بفارغ الصبر لتسوية الأمور مع ” الغوردو”، بعيدا من عناد “أبي قاسم”، وإصراره على عدم دفع أي مبلغ من المال، فجهزنا خطة التسوية بعيدا عن أنظار الآخرين، واتفقنا على إخراجها.
آنذاك، وفي ذروة التوتر العصبي، سمعنا صوتا ينادينا بالعربية، آتيا من الجهة الأخرى للطريق، وإذ به “غسان” صاحب محل “الجوهرة” للعطورات، في مايكاو، يطلب منا مساعدته في تسوية مشكلته مع رجال الأمن،بعدما أصروا على توقيفه 3 ساعات متواصلة، ثم إعادته من حيث أتى،بعد شجاره مع عناصر الحرس الوطني.
فكان جواب “أبي قاسم”، بعد ارتفاع ضغط دمه: يا أخي ليش شايفنا بنشتغل مع الجماعة؟ بدنا ساحر يخلصنا من بين ايديهم”؛ والتفت إلينا طالبا انهاء الموضوع مع “الغوردو” بسرعة، لأن بعض الشباب العرب عالقون على نقطة التفتيش، وسيطلبون المساعدة، وقال بصوت مرتفع: “يظهر أن الشباب مفكريني كوفي عنان”.
عندها اقتربت من “الغوردو” مبتسما، لأُسرّ له أنني سأرسل له حذاء رياضيا جديدا ماركة (أديداس)، وأن خالد سيرتب معه أمر المال، بينما أذهب برفقة الباقين لنحتسي القهوة في دكان قريب.
وحين عودتنا الى السيارة، بعد وداع ” الغوردو” من بعيد، على أمل العودة اليه في القريب العاجل محملين بالهدايا، انتهز الفرصة لوداع “أبي قاسم” على طريقته، مشيرا له بإصبعه الوسطى، قائلا بصوت عال: خذ هذا أيها الأسود!
فسارعه “أبو قاسم” بالقول، وبصوت متهدج: “راجعلك بكرا يا ابن … الحرام”.