“كأني مرتزق”.. جندي ” إسرائيلي” في غزة: سأخبركم ماذا قال عمّي؟
“المدارنت”
لو كنت اليوم، ابن 21، بعد ثلاث سنوات خدمة في وحدة قتالية، لتخيلت كيف أشعر. فالرحلة التي خططت لها مع الرفاق إلى أمريكا الجنوبية، تلغى. أسافر غرباً، بالتأكيد غرباً، حتى غزة. حكومتي مددت لي أربعة شهور أخرى. أربعة شهور! انظر إلى السترة الوقائية التي اعتزمت إعادتها إلى مخزن السلاح، الحزام والسلاح، وداعاً، وليس إلى اللقاء، إلى السنة التي حلمت بأن أقضيها بلا جيش وبلا رقابة أهل، إلى الجوارب المتعفنة بالرائحة الكريهة، إلى الرمل والغبار والعرق في رطوبة غزة.
أحصيت أيامي حتى لحظة التسريح: ثمة نوع من المعتقد الخرافي هذا في ألا أتعرض للقتل أو الإصابة في الليلة الأخيرة. والآن، كل شيء سيخرب، وسأعيد الحساب من جديد. كالسجين في السجن أو المخطوف في النفق.
الجندي: وعدتني الحكومة براتب 8 آلاف شيكل
عن كل شهر خدمة.. بحر من المال
لكن يبدو كرشوة وكأني جندي مرتزق
وعدتني الحكومة براتب 8 آلاف شيكل عن كل شهر خدمة. بحر من المال، لكن يبدو كرشوة، وكأني جندي مرتزق: خذوا مالنا وأعطونا حياتكم. من يشغل مقاتلين مرتزقة؟ أحدهم يدفع كي يقاتل الآخر بدلاً منه. لو كان الوضع كما في “متسادا”، و”غيتو وارسو”، ويوم الغفران، نحن أم هم، سأفهم ذلك، لكن هنا عشرات آلاف الرفاق بعمري تدفع لهم الحكومة كي لا يتجندوا. لا أصدق حكومة في العالم تتصرف هكذا، لا أصدق. دعكم، لو كانت “الأحزاب الحريدية” تعارض الحرب لفهمت، لا نريد أن نقاتل، لا نريد الآخرين أن يقاتلوا، لكنها هي مع الحرب، وهذا الترتيب يناسبها جداً.
الأربعاء، يوافق يوم الذكرى، وسيدعوننا إلى الطابور ليتلو علينا أسماء ضحايا اللواء. قائد الفرقة سيؤدي التحية للعلم، وسيعد بالنصر، وسأفكر بالرفاق الذين رحلوا وأولئك العالقين الآن في أقسام إعادة التأهيل ويقيسون الأطراف الصناعية. أحدهم داس على عبوة، وآخر تعرض لصاروخ مضاد للدروع، وثالث أصيب بقناصة، والقائمة طويلة. سيقول قائد الفرقة إنه لا حرب أعدل، وإن شعب إسرائيل ورب العالم وأنا سأفكر – في واقع الأمر، ما الذي نفعله هنا، من أجل ماذا ومن أجل من؟ ومن التالي في الدور؟
تحمست للحرب في البداية. رأيت الصور، كيف ذبحونا، كيف تجولوا في الكيبوتسات، كأرباب بيت، كيف استقبل الغزّيون المخطوفين، قلت سنريهم ما هو الجيش الإسرائيلي. أطلقنا النار كالمجانين، قصفنا، كسحنا، دمرنا، أشعلنا الشمعدانات على الخرائب، وكتبنا شعارات على كل حائط. الحقيقة، لم أرَ عربياً واحداً حياً في غزة. ليس سوى الجثث، الكثير من الجثث، نعم، لأطفال أيضاً، لنساء أيضاً، لطواقم طبية أيضاً، لا يوجد غير مشاركين في غزة، قال قائد الفرقة واعتقدت أنه محق.
لكن هذا لم ينتهِ: جولة وجولة أخرى وجولة أخرى. عدنا إلى بيت حانون ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، كل شيء بدا مقفراً كفيلم علم خيالي على القمر. بعد أن استولينا على الأرض كان الجميع يدخلون إلى أجواء نهاية الدورة. وزراء يأتون للزيارة، ومراسلون وحاخامات للتظاهر بأنهم يسوغون الأواني للفصح، ويخطبون لنا بأن غزة، جزء من بلادنا المقدسة، ويجب طرد العرب، وإعادة الاستيطان، هذه فريضة من التوراة.
وكان يخرج حماسي بين الحين والآخر من نفق ما، يطلق مضاد دروع ويقتل جندياً. كان الاحتفال ينتهي، خلص، وبعد يومين يعود، وكذا الضيوف. الإعلام يصورنا أبطالاً، نحقق النصر ونعيد المخطوفين. لكن الحقيقة أننا لم نحقق شيئاً.
أنا مجرد نَفَر: لا أفهم الاستراتيجية، لا أفهم السياسة، لكن شيئاً ما هنا لا يترتب لي: عمّي، الضابط الكبير في مكان ما، يقول إن “حماس” تبدي استعداداً لقبول العرض المصري، في واقع الأمر المطالب الإسرائيلية الأربعة: عودة المخطوفين، والتخلي عن الحكم، وتسليم السلاح للمصريين، وخروج القادة إلى المنفى. المطلبان الأولان مؤكدان. الآخران، ربما نعم، وربما لا، هذا منوط بمن تسأل، لكن إعلام العالم العربي مليء بذلك.
إذن انتصرنا، أليس كذلك؟ انتهى الاحتفال: يمكن إعادة القوات إلى الديار والسماح لي ولرفاقي بالعودة حتى أستمتع بشرابي في ماتشو بيتشو. لكن عمّي، الذي يفهم سياسة، يقول إني لا أفهم شيئاً. إذا قبلت “حماس” مطالب إسرائيل كلها فلن يوافق (رئيس حكومة العدو الإرهابي الصهيوني بنيامين) نتنياهو على قبولها. هو مثل الباص في فيلم “سبيد”، الذي زرعت فيه قنبلة. إذا توقف ينفجر. وعليه، فهو يبعث برئيس الموساد إلى قطر لوضع العراقيل أمام العرض المصري.
أتدري، يا عمّي، قلت له. إنس هذا، لم أسأل شيئاً.
أردت أن أقول لكم بأن يوم الاستقلال هذه السنة لن يكون متعة على الإطلاق. نجلس في الشجاعية، بين الأنقاض، نحتسي القهوة، ونرى من بعيد الألعاب النارية في عسقلان و”سديروت”. تمتعوا هناك، في الجبهة الداخلية. الظلام يهبط على غزة: لا قمر، لا كهرباء. وبعد قليل سنخرج إلى دورية على المحور.