كانوا يحلمون.. وما زلنا نحلم.. ولكن!
خاص “المدارنت”..
كتب د. حسام مُحيي الدين… قبل أن تقلع به الطائرة الى وطنه، كان يحلم بإنشاء أضخم معمل في منطقته؛ لقد أجرى كافة الدراسات الضرورية لمشروعه، واستقصى عن كافة الاجراءات التي ينبغي عليه القيام بها، ودرس بدقة أرقام الجدوى الاقتصادية، وعلى الرغم من الأوضاع المؤلمة في البلاد، قرر العودة وبدء المشروع. كان يحلم أن يرى حلمه يتحقق على أرض وطنه بأسرع وقت ممكن، لا بحثاً عن المال، ولكن بحثاً عن هويته التي ألحّت عليه، ودفعته من بلاد الاغتراب الى وطنه، ليسهم ولو بشيئ يسير من أجل أبناء بلده. لكن هذا الحلم، ما لبث أن اصطدم بحائط كبير من الجليد، جليد اللامبالاة، والأنانية، والجشع، والكفر بكل انواع الانتماءات؛ لقد اصطدم بموظف صغير – قد لا يكون صغير الحجم أو الموقع الوظيفي! – صغير الى درجة أنه لم يرَ أهمية مشروعه، وما يقدمه لعجلة الوطن الاقتصادية المتهالكة.
كان هذا الصغير يبحث عن لقمة جشع، عن لقمة فوق الشبع، ليس لأنه جائع بالفطرة ولا يشبعه تراب الحياة، بل لأنه جشع أعماه المال عن مصالح الوطن، وعن مصالح أبناء الوطن. هذا الصغير لم يعلم أن الرشوة التي طالب بها، أعاقت عجلة الاقتصاد، وأخّرت بناء المشروع، ودفعت صاحب المشروع للعودة من حيث أتى حاملاً حلمه المكسور، ورافضاً النظر الى الخلف، وقد أحسّ أن جزءاً من هويته لم يعد كما كان.
الواقع أنه ليس الوحيد الذي كان يحلم، فعلى طائرته المغادرة بأسى أرض الوطن، التقى بذلك الركب من الحالمين، كلهم ترك مرغماً خلفه أبناء بلدٍ كان يتشوقون للعمل معهم. أنه ذلك الصغير، وذلك المبلغ الصغير الذي كسر خاطرهم وخاطر ذلك المستثمر الذي رغب بالمساهمة في حلّ مشكلة المياه، أو رجل الأعمال الذي أتى حاملاً معه حلم الطاقة النظيفة، أو ذلك المبعوث الأجنبي الذي حمل خرائط القطارات السريعة وشبكات مترو الأنفاق الى بلاد أخرى قد تستقبله على الرحب والسعة، دون أن تطلب منه الكثير، بل ربما قد تقدم له الكثير من أجل إنجاز مشروعه.
لقد أقلعت طائرة الأعمال والاستثمار، تاركةً خلفها عبئاً ثقيلاً على وطنٍ يتشوق للاستثمار والتحديث، وتقف أمام عتبات أحلامه، عقول صغيرة، وأيدٍ متسخة بمبالغ صغيرة، منعت هذا البلد من التقدم والازدهار. هذه العقول الغريبة الأطوار، لا تقيم اعتباراً لحالة الوطن العامة، بل تعيش اللامبالاة، وتدفعها أحياناً هذه اللامبالاة الى تمرير الممنوع والمحرّم والمؤذي لصحة البلاد والعباد، من أجل حفنة صغيرة لن تسدّ جوعها وجشعها العتيق.
هنا، لا بد من العودة قليلاً الى الشرائع السماوية وما تقوله في الرشوة! هل هي حلال وشطارة، وتذاكي لتحصيل فائض على لقمة العيش الحلال!
قال تعالى: “لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”: “البقرة – 188”.
وقال رسول الله (ص): “كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به”.
وعن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال: “السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية”.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “الرشوة في الحكم كفر وهي بين الناس سحت”.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما”. وجاء في الأثر: “إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة”.
وورد في سفر الخروج ما يلي: “لا تحرّف حق فقيرك في دعواه. ابتعد عن كلام الكذب ولا تقتل البريء والبار، لأني لا أبرر المذنب. ولا تأخذ رشوة، لأن الرشوة تعمي المبصرين وتعوج كلام الأبرار” (خروج 23: 6-8).
وفي سفر التثنية ورد عن الرشوة ما يلي: “لا تحرف القضاء، ولا تنظر إلى الوجوه، ولا تأخذ رشوة، لأن الرشوة تعمي أعين الحكماء وتعوج كلام الصديقين”، (تثنية 16: 19).
ويقول سفر المزامير ما يلي: “السالك بالكمال والعالم بالحق.. فضّته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة على البريء” (مزمور 15: 2 و5).
وورد في سفر إشعياء ما لي: “ويل للقائلين للشر خيراً وللخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً.. الذين يبررون الشرير من أجل الرشوة، وأما حق الصديقين فينـزعونه منهم”. (إشعياء 5: 20 و23).
ولم تكن الرشوة تُدفع قديماً لمجرد المواربة في الأحكام، بل كانت تُدفع أيضاً لأذية الآخرين وقتل الغرباء الأبرياء، وتعريج القضاء، لذلك حذر الله من ذلك بقوله: “ملعون من يأخذ رشوة لكي يقتل نفس دم بريء”. (تثنية 27: 25).
أما في قانون البشر، فقد نص قانون الموظفين “المرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959 وتعديلاته” في المادة 15 منه على الاعمال المحظرة على الموظف ومن بينها ما ورد في البند 7 من هذه المادة: “ان يلتمس او يقبل توصية ما، او ان يلتمس او يقبل مباشرة او بالواسطة بسبب الوظيفة التي يشغلها، هدايا او إكراميات او منحا من اي نوع كانت”.
نشرت الدرجات التي حصل عليها لبنان بحسب مؤشرات الحكم فيى البنك الدولي 2008/ 1996، في نهاية شهر حزيران 2009، وهي ليست مشجعة على الاطلاق، وهذا يدل على وجود مستويات عالية جداً من الفساد.
بعد عرض المؤشرات في أكثر من 212 بلدا”، صنّف لبنان في المرتبة 146 على مؤشر فعالية الحكومة، والمرتبة 202 على مؤشر الاستقرار السياسي، والمرتبة 108 على مؤشر المساءلة و المحاسبة، و المرتبة 167 على مؤشر مكافحة الفساد. وعلى مؤشر النزاهة العالمية 2007 تلقى لبنان درجة 45/100. الوضع لا يبشر بالخير!
وبعد مرور ما يقارب عقد من الزمن، وبحسب المؤشر نفسه فقد تقدّم لبنان إلى المرتبة 138 عالمياً عام 2018 من أصل 180 دولة يُقيسها المؤشر، مقارنة بمرتبة 143 من أصل 180 لعام 2017، إلا أن هذا التقدم لا يعكس تحسّن نتيجة لبنان، لا بل ينتج عن تراجع لبعض البلدان في المؤشر العامّ. أما على المستوى الإقليمي، فقد حافظ لبنان على مرتبته 13 من أصل 21 دولةً عربية.
وفي المحصلة، يبدو أن الزمن برتابته المتسخة، توقف قطاره في محطات حياتنا اليومية في هذا البلد! فعلى سلم الخبرة والمشاهدة اليومية، يبدو أن الرشوة تحولت وتطورت من إكرامية لتسيير معاملة الى ابتزاز، الى ابتكار أعقد الطرق أمام المعاملات من أجل تسييلها بالمبالغ الصغيرة. ويبدو للموظف صاحب الوعي، والكرامة الرافضة للصغائر، والمهتمة بشؤون البلاد والعباد، أمام هذه الموجة العاتية من المغريات كما لو أنه من كوكب آخر، يرفض ويعاكس التيار، ويصرّ على موقفه على الرغم من الضغوطات؛ لأنه يعلم، حتى لو بقي وحيداً، أنه المتراس الأخير في الدفاع عن بقاء هذا الوطن. يقف، ويمتنع عن الانزلاق، لأن قيمه النبيلة وايمانه العميق بالحياة “النظيفة” تحثه دوماً على الدفاع عن كل مواطن، وتمنعه من إعاقة أي تحديث لهذا الوطن. فهو يعلم بقرارة نفسه، أن إمضاءه البسيط، يرسم بعمق مسيرة تطور، ورحلة بقاء للأجيال القادمة. فالرشوة واضحة، لهذا الموظف “الأخير”، الحريص على استمرارية البلاد، تقف أحياناً عائقاً أمام تحريك عجلة الوطن الاقتصادية، دون ان يدري طالبها الوقح أن ما طلبه بوقاحة لنفسه وملذاته، ودون أي رادع ديني أو أخلاقي، دمر بلده باستهتار.
أمام هذا الواقع، أنا أحلم كغيري من أبناء الوطن، إن لم يكن من أجلي، فمن أجل الأجيال القادمة، ببلدٍ أكثر حداثة وأكثر استقراراً. ببلدٍ قد غيّر المجتمع نظرته للمرتشي، فبدل أن يكون ذلك “الشاطر الذي يعرف من أين تؤكل الكتف”، ينظر اليه شذراً على أنه ذلك “الصغير” الذي مهما علت مواقعه الوظيفية، يبقى ذلك الصغير بكل مآربه. أنا أحلم ببلدٍ يتشجع فيه المستثمر اللبناني المغترب، والأجنبي القادم والمؤمن بلبنان، ليأتي بكل مشاريعه الصغيرة والكبيرة، وليبني معنا دورة اقتصادية نشطة، تنقذ البلد من الشلل الذي يعيشه، وتحمل بذرة أمل للأجيال القادمة، بدل أن يتحولوا الى طيور مهاجرة فقدت إيمانها ببلده الأم. أنا أحلم بوطن، يتيقن فيه الموظف الصغير أن تبريره الدائم بأن الراتب الشهري لا يكفي، لا يخوله ابتزاز الناس والمشاركة في جريمة جماعية تأكل من خزينة الدولة بطرق عدة لتصب في جيوب معدودة لا تعرف الشبع.
أنا أحلم وسأظل أحلم، وأنا مؤمن أن هذا الحلم سيصل يوماً الى الواقع، لوجود العديد من الحالمين أمثالي، الذي لم يعد يعنيهم أنفسهم، بل أولادهم والأجيال القادمة التي تنتظر منا وطناً يتقدم نحو النشاط الاقتصادي العام، ولا يتعثر، لأن موظفاً صغيراً هنا أو هناك، ارتكب عثرة لا ترحم من في الأرض، ولا ترضي من في السماء.