كيف يعزّز قادة المجتمعات السورية اللاجئة والمضيفة العلاقات بين السوريين؟!
“المدارنت”..
أصبحت قضايا الهجرة واللجوء والنزوح من أكثر القضايا الإنسانية صعوبةً وتعقيداً، قضية عالمية عُظمى لا يمكن تجاهلها أو عدم التفاعل معها، فالملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم باتوا يعيشون الآن في دول أو مناطق وبيئات أخرى مختلفة عن أماكنهم ومواطنهم الأصلية، بسبب الحروب والنزاعات أو الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في نيسان 2023، أصدر “مركز جسور للدراسات”، خريطة لتوزّع السوريين داخل سوريا وخارجها، خلص فيها إلى أنّ العدد الإجمالي للسوريين حتّى نهاية الربع الأوّل من هذا العام (2023) بلغ نحو 26.700.000، منهم أكثر من 16.000.000 سوري، ما يزالوا داخل “سوريا”، وأكثر من 9.000.000 خارجها، مع نحو 900.000 من المفقودين والمغيّبين قسراً، وقال التقرير إنّ أعداد السوريين في الداخل قد توزّعت بين مناطق المعارضة 4.300.000، وبين المناطق التي تسيطر عليها “قسد” 2.600.000، ومناطق سيطرة النظام 19.600.000.
بحكم الحاجة الماسّة لتحقيق التفاهم وبناء جسور الانسجام والعلاقات الجيّدة بين أطراف هذه “المجتمعات السورية”، وبحكم القدرات التي يمتلكها الكثير من الأشخاص من خلال تأثيرهم على تغيير أو تطوير الرؤى والسلوكيات والمواقف بسبب مواقعهم أو مكاناتهم الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو العلمية، يبدو أنّ الحاجة ماسّة أيضاً للتركيز على الأدوار التي يقوم بها هؤلاء الأشخاص في سبيل تعزيز التواصل بين ثقافات متعدّدة أو بيئات -إلى حدّ أو قدر ما- مختلفة، سعياً لتحويل تحدّيات النزوح ومشكلاته وصعوباته إلى فرص حقيقية للتعلّم المتبادل وتعزيز التلاحم الوطني وتجاوز الانقسامات الثقافية أو الاجتماعية أو الدينية وتقوية ودعم الروابط والقيم المشتركة، ولتعزيز الثقة والاستقرار من خلال تكريس القانون وتطبيق العدالة والمساواة في الفرص، وللحدّ من التوتّر والعنف بتشجيع الحلول السلمية للنزاعات من أجل الحفاظ على السلم الأهلي، وكذلك بالعمل على تعزيز التنمية المستدامة للجميع في العمل والتعليم والرعاية الصحّية للتقليل من الفقر والبطالة وأيّة عوامل أخرى قد تؤدّي إلى تنافس سلبي أو إلى صراعات.
من هم القادة المجتمعيون؟
هم مجموعة من الأشخاص الذين يعتبرهم الناس ممثّلين عنهم في المجتمع الذي يعيشون فيه، لأنّهم مؤثّرون وفاعلون ويعملون بسعي من أجل تحقيق مصالح الناس وحلّ مشكلاتهم، ويثيرون القضايا المهمّة التي تعني المجتمع، ويسلّطون الضوء على ضرورة التغيير نحو الأفضل، كما ويركّزون على إبقاء أفراد المجتمع مهتمّين معاً للعمل على تحقيق أهداف مشتركة في مجتمعهم.
إنّ دور “قادة المجتمع” أو القادة المجتمعيين ينبغي أن يمتدّ حتّى إلى تشكيل وجهات النظر والسلوكيات المجتمعية، من خلال القدرة على إحداث التغيير بتوجيه التفكير والعمل نحو بناء الثقة وتوحيد الجهود لتعزيز العلاقات بين النازحين والمجتمعات المضيفة، ولفهم هذا الدور لا بدّ من تحليل دقيق لسمات ومزايا هذه الفئة من المجتمع وطرائق وأساليب تعاملهم مع كلّ التحدّيات الموجودة أو المحتملة، ليكونوا جسور تواصل وتفاهم بين الجميع من خلال خبراتهم وتجاربهم الشخصية والعملية.
أهمّية التعاون بين المجتمع النازح والمجتمع المُضيف
لم يعد النزوح السوري في أغلب حالاته مسألةً مؤقّتةً انقضت خلال فترات قليلة أو مشكلةً يبدو أنّها ستنقضي قريباً، بل لقد مرّت أكثر من ثلاث عشرة سنة على بداية نزوح السوريين إلى المخيّمات على أشكالها أو إلى المدن والبلدات والقرى السورية في كلّ مكان من “سوريا” تقريباً، وهذا يعني أنّ مجتمعات سوريةً مختلطةً قد تشكّلت في أمكنة كثيرة، وصارت تتعايش معاً في هذه الأمكنة وتتشارك في المرافق والخدمات وفي العمل والتعليم والرعاية الصحّية كما وفي السكن والمواصلات، وليتشكّل التعايش والتشارك بين المجتمعات ويتّجه إلى تعزيز الاستقرار لا بدّ من التعاون بينها من خلال الحوار وتبادل المعارف والخبرات والسعي لبناء الثقة، ما يساهم في بناء مجتمع أكثر انسجاماً يتضامن أفراده معاً لتطوير الاقتصاد وتحسين البُنى التحتية والتنمية المُستدامة، ولاحترام وحماية حقوق الإنسان، وإنّ تحقيق التنمية في المجتمعات المضيفة مرتبط بحماية اللاجئين أو النازحين.
التواصل والحوار وتحقيق المصالح المُشتركة
غالباً ما تُطلق مبادرات الحوار بين طرفين أو عدّة أطراف في المجتمعات في بيئات معقّدة أو ظروف غير مستقرّة، وقد لا يمكن التنبّؤ جيّداً بالنتائج، فقد تتعرّض عملية الحوار في مكان ما لمخاطر التضليل الإعلامي أو التلاعب، فيكون مصيرها الإخفاق، ولذا ينبغي ومنذ البداية العمل على تصميم مبادرات أو عمليات الحوار بشكل يراعي الواقع والظروف وأن تكون على درجة كبيرة من المرونة والحياد، وعلى الرغم من وجود اختلاف نظري بين “الحوار” و”الوساطة” لكنّ الجهود التي تُبذل داخل المجتمعات التي تعاني من نتائج النزاعات والنزوح الداخلي من أكثرها شدّة وأعظمها أثراً، ينبغي أن تركّز على دور “الوسطاء الداخليين” وهم الأشخاص الذين يحظون بثقة مجتمعاتهم.
تعزيز الأمن والسلامة والعدالة
لتعزيز التفاهم وبناء الثقة بين أفراد مجتمع واحد لا بدّ من شعور الجميع باستتباب الأمن وسيادة القانون، وستزداد الحاجة إلى تحقيق ذلك كلّما ضعف المجتمع، وفي حالة النزوح فإنّ المشكلة تتفاقم بسبب حالة عدم الاستقرار، ولذلك فإن التركيز على تحقيق الأمن للمجتمعات النازحة والمضيفة أمر أساسي في تعزيز التماسك المجتمعي بينها وفي تحقيق السلم الأهلي، وكذلك التركيز على تقوية مفاهيم حقوق الإنسان لديها والاهتمام بتحقيق العدالة والحماية القانونية لكلّ الأفراد من دون تمييز بينهم على أيّ أساس مطلقاً، فالحوار مع هذه الأطراف المختلفة في المجتمع من شأنه زيادة الثقة.
لا شكّ أنّ المجتمع السوري عانى الكثير من المشاكل الاجتماعية جعلته يعيش حالةً من الفوضى في ظلّ غياب القوى الضبطية للدولة والقانون والقضاء، وهذا ما جعل القيادات المجتمعية تمسك زمام شؤون المجتمع بكلّ جوانبه، ما أكّد على مكانتها الاجتماعية والسياسية ودورها قي حلّ وفضّ النزاعات التي تحدث بين أفراد المجتمع.
في الوقت الذي عانت فيه النساء السوريات ويلات النزوح والتهجير من بيوتهنّ ومجتمعاتهنّ إلى مناطق ومجتمعات أخرى، ودفعن بسبب ذلك أبهظ الأثمان بما فقدنه من آباء وإخوة وأزواج وأطفال، وبما تعرّضن له من عنف وتهميش وتمييز في حالات كثيرة، ما خلّف آثاراً نفسية واجتماعية واقتصادية حادّة وخطيرة، إلّا أنّ النساء السوريات استطعن بعد الحرب السورية وفي أقسى ظروفها وظروفهنّ تقديم وتحقيق الكثير من الإنجازات على كلّ الأصعدة وفي كلّ المجالات، في التعليم ورعاية الطفولة، في الطبابة والرعاية الصحّية، في العمل المهني والإداري، في الصحافة والإعلام، في الإغاثة والمساعدة الإنسانية، في الدعم النفسي والحماية الاجتماعية، وفي المشاركة المدنية والسياسية، وفي الوساطة المحلّية أيضاً، وأسهمت مشاركة النساء في التخفيف من تداعيات الحرب.
القادة المجتمعيون الجُدد
إنّ أغلب القادة المجتمعيين بعد الثورات أو الانعطافات الحادّة التي عصفت وتعصف في الكثير من دول العالم هم من الشباب، لأنّهم الأكثر تأثّراً بالتغيّرات التي تطرأ عليهم وعلى مجتمعاتهم، وفي الوقت الذي خلّفت فيه الحرب السورية أجيالاً من الشباب الذين أرغمتهم الظروف على الابتعاد عن التعليم والرعاية المجتمعية، إلّا أنّها في ذات الوقت أفرزت مجموعات من الشباب المتعلّمين أو المؤهّلين اجتماعياً وأخلاقياً لتبوّء أمكنة مجتمعية رائدة وللمساهمة بشكل مباشر في تشكيل وعي وتحفيز لدى الجمهور المحيط في الأسرة والمجتمع، ولقد وقع الكثير وبشكل مباشر كضحايا للعنف والاعتقال والتهجير، وما زالوا يحتاجون للأدوات والقدرات التي تمكّنهم من الاندماج، خاصّةً وهم في سنّ الشباب.