تربية وثقافة
لاتينيون من أصول عربية/ الجزء “7”.. إلياس مفدي،. سيرة نجاحٍ باهرة..
خاص “المدارنت”..
عام 1899 م. وصل إلياس مفدي إلى مدينة بارانكيا الساحلية في كولومبيا، ولم يكن قد أتم الخامسة عشرة من عمره حينها، آتيا من “بيت جالا” في فلسطين، على متن باخرة رست على شاطىء “بويرتو كولومبيا” القريب من المدينة، تلبية لدعوة من شقيقه الأكبر “سليمان”، الذي كان في عداد المهاجرين العرب الأوائل الى كولومبيا، بعد العام 1880 ميلادي، والذي كان يعمل في تجارة النبيذ.
لم يشتغل “إلياس” في تجارة الكشّة المعروفة لدى مهاجري تلك الحقبة، والبيع في الأحياء الشعبية بالانتقال من بيت الى بيت، وبالتقسيط المريح؛ بل امتهن العمل في محل تجاري يبيع الزبائن بالجملة والمفرّق، تلك التجارة التي تعلم أصولها من شقيقه “سليمان”، وساهم في تطويرها من تجارة إلى صناعة، إلى محلات كبرى تبيع الناس حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس ولوازم المنازل؛ متميزا عن كل أقرانه من المهاجرين العرب، وعن نظرائه من التجار المحليين والأجانب الذين لم يستطيعوا مجاراته.
كانت بداياته في محل واقع في وسط المدينة الحيوي، حيث لا تهدأ حركة المواطنين، في زمن عرفت فيه “بارانكيا” نموا سريعا مع تدفق سكاني من الأرياف المجاورة، ما ساعده على نمو اقتصادي سريع دفع به للانتقال الى محلات تجارية كبرى قريبة من نهر “ماجدالينا” بين شارعي 31 و32 الواقعين في قلب الوسط التجاري، حيث تجري عمليات الاستيراد والتصدير على قدم وساق، من وإلى المدينة، عبر بواخر الشحن الكبيرة، وما لبث ان شيد هناك مركزا تجاريا كان الأول من نوعه، حيث اشتمل على ثلاثة طوابق، تضمنت محلات تجارية متنوعة ومستودعات ومكاتب، ليصبح – لاحقا – أشهر مؤسسة تجارية على مستوى المنطقة الشمالية، بل على مستوى دولة كولومبيا بأسرها.
حينما نشبت الحرب العالمية الأولى، تعرض الإقتصاد الكولومبي لشح كبير، وبدأت البضاعة تفقد من الأسواق، بينما كانت مستودعات “إلياس مفدي” مليئة بالبضاعة المستوردة، واستطاع سد حاجات السوق بمفرده؛ ما ضاعف ثروته بشكل خيالي، وصار أول أثرياء مدينة بارانكيا، ورمزها الإقتصادي الأول، ناهيك عن شهرته في الأعمال الخيرية والإنسانية التي طبقت الآفاق.
آنذاك، قرر “إلياس مفدي” العودة إلى فلسطين بقصد الزواج، فتم له ما أراد، وتزوج من “كاتالينا أبو فحيلة” ابنة بلده، التي سافرت معه إلى كولومبيا، وأنجبت له أحد عشر ولدا، اشتهر بعضهم باختصاصات علمية وطبية، ولم يتابع مسيرة الولد التجارية سوى قليل منهم.
وبينما صارت مدينة بارانكيا الساحلية تعدّ المدينة الثانية بعد العاصمة بوغوتا، من حيث النمو السكاني والعمراني، بفضل “الياس مفدي”، فلقد استطاع امتلاك حوالي نصف عقارات المدينة، من أبنية وعقارات ومزارع، وذلك حسب سجلات المدينة في ثلاثينات القرن الماضي؛ واتجه جنوبا وشمالا في شراء مئات الهكتارات الزراعية بقصد الاستثمار، التي تبرع بجزء منها لبلدية المدينة، ومقداره مئة وخمسون هكتارا قرب منطقة “سوليداد”، والتي أوصى أن يقام عليها مؤسسات تخدم عامة المواطنين، من مستشفيات ومصحّات ومدارس وجامعات، واستراحات ودور عناية لكبار السنّ، وملاعب رياضية متنوعة. والى جانب تلك الأرض، أنشئت مدرسة الشرطة وعيادة الشرطة وعيادة جامعية لمنطقة الشمال، والمستشفى الجامعي العام، إضافة الى أكبر حديقة عامة في منطقة ساحل الكاريبي، والتي أطلق عليها اسم: “حديقة مفدي parque Muvdi).
ومن مآثره، أنه أهدى الجيش الكولومبي طائرتين حربيتين أثناء حرب كولومبيا مع البيرو عام 1932، التي اشتعلت بعد نزاع بين البلدين حول ملكية بعض مناطق الأمازون؛ وتقول مصادر أنه قدم آنذاك ألبسة وأحذية لجميع أفراد الجيش الكولومبي؛ ما دفع الدولة إلى تكريمه بمنحه الجنسية الكولومبية تقديرا لعطاءاته المميزة.
كما عرف عنه، أنه أحد المؤسسين الفعليين لمدينة “باراكيا”، ونقلها إلى مصاف المدن العصرية،نظرا للمباني السكنية والتجارية الكثيرة التي شيّدها، من محلات كبيرة متعددة الطوابق، ومن قصور ومنازل اشتهرت بفخامتها، وما يزال بعضها قائما شاهدا تاريخيا على ذلك، مثل قصره الواقع في وسط المدينة، الذي يعتبر معلما من معالم البناء الحجري، وروضة يمتزج فيها الواقع مع الخيال لشدة اتساعه وتنوع زخارفه؛ علما أنه شيّد آلاف البيوت وقدمها مجانا الى المحتاجين مِمّن كانوا يعملون عنده.
وعلى الرغم من تعرض مبناه التجاري في السوق لحريق هائل عام 1948 م، فلقد استطاع “إلياس مفدي ” أن يكون أحد أبرز أثرياء أميركا اللاتينية إبان تلك الحقبة، ومالك حوالي نصف مدينة بارانكيا الساحلية.
وما لبثت أن امتدت الأيادي العابثة إلى المبنى مرة جديدة عام 2011، لتقضي على كل محتوياته، وتشوه كثيرا من معالمه، إلى أن تعهدت حكومة المحافظة بتجميله، وتحويله إلى متحف خاص تكريماً للراحل.