لاتينيون من أصول عربية.. شاعرة الحنين “أولغا شمس.. الجزء “2”..
خاص “المدارنت”..
شاعرة كولومبيا الأولى في القرن العشرين، وصاحبة الإسم النسائي الأكثر شهرة في الشعر الكولومبي المعاصر، وعضو الأكاديمية الكولومبية للّغات، إنها “ميرا دِلمار/ Meira del mar”.
اسمها “أولغا ايزابيل شمس الحاج”، ولدت في مدينة “بارانكيا” الساحلية عام 1922، من أبوين لبنانيين، هما “خوليان شمس وإيزابيل الحاج”، هاجرا من منطقة عكار في شمالي لبنان.
بدأت بكتابة الشعر مبكرا، ولها خمسة عشر عاما من العمر، ونشرت بواكير قصائدها في مجلة كوبية تدعى” فانيدادس”، وهي قصائد: تظنني حجرا، سلسلة، وَعْد، وهدية المطر؛ ووقّعتها بلقب “ميرا ديل مار” الذي استوحته من كلمتين: الأولى اسم فتاة عربية “عُميرة” والثاني لفظة البحر- بالإسبانية – لعشقها وهيامها بالبحر، وكان استبدال الإسم باللقب، لئلا يعرف والداها وأصدقاؤها آنذاك، أنها كاتبة القصائد؛ وغلب اللقب على الإسم، وصارت تُعرف به.
بعد أشهر، بدأت الصحف ووسائل الإعلام المحلية نشر أعمالها؛ ثم ظهرت على صفحات مجلة ” فانيدادس” الكوبية قصائدها الجديدة: من وجدان الذكرى، طيران، اللقاء، وبائع الورد.
وبعد أعوام، كشفت إحدى صديقاتها عن حقيقة اسم الشاعرة، التي توقّع أشعارها باسم “ميرا دلمار”، في صحيفة ” التمدن “Civilizaciones؛ ما حرّرها من عقدة الخوف السابقة، وتقمصت “أولغا شمس” لقب” ميرا دلمار” إلى الأبد.
وأمام ضغط أصدقائها من كتاب وشعراء وفنانين، وافقت على إصدار ديوانها الأول: “فجر النسيان”؛ التي أرسلت نسخة منه إلى شاعرة الأورغواي “خوانا دي إيبربورو”، مرفقة بقصائد جديدة غير منشورة سابقا، تطلب رأيها بما كتبت، ليأتيها رد كان له أقوى أثر في متابعتها كتابة الشعر،حيث نصحتها “خوانا” بالمتابعة في أسلوبها الساحر الفريد في عالم الشعر اللاتيني. فأصدرت ديوانها الثاني “مكان للحب” عام 1944، ثم اتبعته بديوان ثالث بعنوان: “حقيقة الحلم” عام 1946، وتوالت الإصدارات حتى العام 2000؛ وهي على التوالي: جزيرة سرّية، ضيف بلا ظل، لقاء جديد، عود الذاكرة، أحدهم مَرّ، يحدث للريح، رحلة إلى الأمس.
إنتمت الشاعرة إلى وطنين: لبنان وكولومبيا، ففي بيت العائلة كانوا يتحدثون بلغتين، والأصدقاء كانوا من أبناء الجالية العربية، ومن الكولومبيين، ما ترك أثرا في شعرها عامة،كما في حياتها؛ ولطالما افتخرت بأصلها العربي، وانتقدت من يدّعي أصلا فينيقياً من أبناء الجالية اللبنانية، فالعروبة-حسب رأيها- هي لغة النطق والتخاطب، ولغة الأدب والشعر؛ والعربي بطبيعته مفعم بالحب للغته ووطنه، ولعائلته الواسعة التي تمتد جذورها إلى الأجدادِ وأبنائهم وأحفادهم.
ولعل ما تميزت به “ميرا دلمار” عن كثير من المتحدرين اللبنانيين، هو اهتمامها بالقضية الفلسطينية، التي شغلت حيزاً مهما في مسيرتها الشعرية، وقد شرحت ذلك مرات عديدة، حيث قالت: في حين أنني من أصل لبناني وليس فلسطيني، فهناك ما يوحدنا، وما أشبه بلادنا بأميركا الجنوبية، فيها دول كثيرة يتكلمون اللغة الإسبانية وتجمعهم هموم مشتركة.
والمأساة الفلسطينية هي اهتمامي الدائم، لأنني أعتبر أنه ليس من عدالة تاريخية في محو اسم فلسطين عن الخارطة، واستبداله باسم دولة مصطنعة هي إسرائيل؛ ومن أجمل ما كتبت الشاعرة كانت قصيدتها “مرثية ليلى خالد”، المناضلة الفلسطينية المطرودة من بلدها الأصلي، طفلة وبالغة، من أثر الحرب. كما قالت.
وعبرت عن تضامنها مع العراق أثناء الغزو الأميركي، لأن ذلك الغزو – في رأيها- حرك ضمائر وأحاسيس المتحدرين من أصول عربية في أميركا اللاتينية، مثلما أيقظ مشاعر الأميركيين والأوروبيين الذين تظاهروا بأعداد غفيرة استنكارا للعدوان، ورفضاً لقتل الأبرياء من أجل النفط والغاز.
” أولغا شمس”، شاعرة مبدعة، حلقت في سماء الشعر بجناحي الشرق والغرب، لبنان الذكريات والأجداد، وكولومبيا الحلم والمصير؛ انتظرت الحب طويلا ولكنه لم يصل أبدا، فعاشت في انتظار حب معقود بالأمل، وأحلام عبرت بها إلى عالم تنشده الإنسانية. وكانت ثروة حياتها في أصدقائها وعائلتها، ربما تعويضا عن حب مستحيل. وتوفيت العام 2009، عن سبعة وثمانين عاماً.
وتخليدا لذكراها، طالبت 550 شخصية فنية وثقافية، بتحويل بيتها الى بيت للشعر يُسمى باسمها، وكان من بينهم الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب؛ ومنهم من طالب بتحويله إلى متحف، تكريما للشاعرة، ولما قدمته للحياة الأدبية في مدينتها “بارانكِيّا”؛ بينما رفض ورثتها بيع منزلها، وتعهدوا بالمحافظة عليه كما كان في حياتها، جامعاً للأصدقاء من الفنانين والمثقفين.
ومن دوواينها اخترت قصيدتها المعبّرة:
مرثية ليلى خالد، في ترجمة أُقدّمُها إلى القارىء العربي.
كسروا طفولتك، ليلى خالد
السنبلة ذاتها، أو كجذع زهرة .
كسروكِ
سنوات من العجب والحنان
وخربوا باب منزلك
كي تدخل منه ريح المنفى المُرّة.
***
وبدأتِ السير
على كتفيكِ تحملين الوطن.
الوطن المتحول إلى ذاكرة
من مكان تم مسحهُ عن الخرائط
وتألم عميقاً مع مرور الزمن.
وعاد أكثر حزنا من الصمت
وصرخ أثناء العقاب في شَجَنْ.
***
وذات يوم، ليلى خالد، ليلة نقيّة
ليلة جريحة النجوم
وجدتِ الحقول، القرى، الطرقات
وشوماً على جِلد الذاكرة
تحرك في دمك الأحمر الحيّ
يملأ عيونك بعطشه
والأيادي والأكتاف بالبنادق
وتمرد شرس لنوم مفارق .
***
وبدأوا ينادونك بأسماء مُرّةٍ مُخزية
وقذفوكِ بأصوات أقسى من الأشواك
من النقاط الأربع الأساسية
وتابعوا آثارك بحديد هو عارُهم.
أنت صمّاء، عمياء، في وسط مخالب الأعداء.
تحرقين طريقهم بنارك من الحدود إلى الحدود.
تحصّنين صدرك ضد كاره وحقود.
***
مع عدم اليقين بالعودة إلى أرض الحِداد،
التي طردتهم منها آلاف الأيدي الغريبة .
شاهدتكِ الصحارى، المدن، القطارات محمومة السرعة.
منغمسةً في مصير النضال
تحرمك الحب والتنهيدات
تفقدك في النهاية بين الظلال.
لا أحد يعرف، ولا أنا، ما كان المصير
كنت تغمرين التراب،
أو تفتشين في وديان البحور
عميقة ووحيدة.
أو ما زلتِ تقضين مضاجع الوحوش التي تطارد الزهور .
لا أحد يعرف، ولا أنا، لكنكِ فجأة سترتفعين في ضباب الأرقْ.
غاضبة ورهيبة، ليلى خالد.
غنمة تتحوّل إلى ذئبة
ووردة ميّاسةً، تتحوّل إلى موتٍ وَسَقْ.
************