لاتينيون من أصول عربية: “1”.. ألفارو فيّاض..
“المدارنت”..
بين الثورة والسياسة
عالم نفساني وثائر، وأحد مؤسسي حركة 19 نيسان الثورية، وقائدها لاحقا؛ ولد في مدينة “اوللويا” الكولومبية عام 1946، من عائلة لبنانية امتهنت التجارة، ودرس الطب في الجامعة الوطنية في العاصمة بوغوتا، وفيها تعرف إلى قيادات اليسار الكولومبي، ومؤسسي التنظيمات والحركات اليسارية المسلحة.
انتسب في مرحلة مبكرة من عمره، إلى الشبيبة الشيوعية الكولومبية،لينتقل منها إلى “القوات الثورية الكولومبية المعروفة FARC عام 1969، وهي أقوى منظمة ماركسية لينينية آنذاك،اعتمدت أسلوب العمل المسلح في مواجهة الحكومات الكولومبية المتعاقبة، وما لبث أن انشق عنها مع مجموعة من رفاقه ليشكلوا حركة التاسع عشر من نيسان M-19، في اتجاه فكري جديد، يؤمن بالاشتراكية الوطنية بديلا للماركسية اللينينية، وفي اعتماد شديد على المعارضة المسلحة للضغط على الحكومة في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية.
واشتهر “الفارو فياض 1946- 1986.. بلقب “التوركو”، في إشارة إلى أصله اللبناني، لأنه ابن مهاجر لبناني، وصل إلى كولومبيا بجواز سفر تركي، إبان الحكم العثماني لمنطقة بلاد الشام. وكان ذا ثقافة واسعة، يتقن خمس لغات، كماتميز بانضباطه الشديد في حرب العصابات، وبمهارته السياسية في مفاوضات السلام.
شارك في التخطيط لأبرز عمليات حركة 19 نيسان، وأدار بعضها بنفسه؛ وكان من أهم تلك العمليات، سرقة سيف المحرر “سيمون بوليفار”، تحت شعار: بوليفر سيفك عاد إلى القتال، في دلالة رمزية لاتباع نهجه في التحرير، وبمثابة إعلان ولادة الحركة الثورية الجديدة.
ثم تلتها عملية السطو على أكبر مخازن الأسلحة للجيش الكولومبي عام 1978، لتكون جرس إنذار لأجهزة الدولة بأكملها، والتي بادرت إلى اعتقال مئات من أعضاء الحركة وقياداتها، والحكم بسجنهم لفترات طويلة، كان نصيب “ألفارو” منها 26 عاما؛ واشتهر عنه آنذاك رفضه توكيل محامين عنه، وتولى المرافعات بنفسه، فاضحا اساليب التعذيب الوحشي الذي تعرض له معتقلوا الحركة على يد قوات الأمن.
وكان ردّ الحركة قاسيا، ففي العام 1980، فوجىء العالم باقتحام مجموعة مسلحة من الحركة، سفارة جمهورية الدومينيكان في بوغوتا، أثناء احتفالها بالعيد الوطني، وتم احتجاز كل من كان موجودا فيها كرهائن، وكان في مقدمتهم سفير الولايات المتحدة الأمريكية في كولومبيا؛ ما شكل إحراجا كبيرا للرئيس الكولومبي “خوليو سيزار طربيه”، وهو من أصل لبناني، وما أجبره بعدها على الموافقة على شروط مقاتلي الحركة، بإطلاق سراح 320 من من معتقليها، وتأمين خروجهم سالمين إلى دولة “كوبا” المجاورة، وذلك بعد شهرين من المفاوضات مع المجموعة المهاجمة.
ومع بداية عهد الرئيس “بيليساريو بتانكور” 1982- 1986، استفاد أعضاء حركة 19 نيسان من عفو رئاسي، كان مقدمة مفاوضات بين الحكومة الكولومبية والحركة، ابتدأت جولتها الأولى في دولة “بنما” القريبة عام 1982، ثم انتقلت إلى إسبانيا عام 1983، تمثلت فيها الدولة برئيسها، وتمثلت الحركة برئيسها “إيفان مارينو أوسبينا” ونائبه “ألفارو فياض”، والجدير بالذكر أنه حصل التمهيد للمفاوضات بين الطرفين من جانب الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، وبدعم من صديقه، الرئيس الكوبي ” فيديل كاسترو”.
وأنتجت مفاوضات السلام اتفاقا هشاً، لم يكن أكثر من هدنة مؤقتة؛ فلا الحكومة التزمت بتعهداتها بالإصلاح السياسي، ولا الحركة قبلت تسليم أسلحتها الى الدولة، وكان “فياض” واضحا في ذلك، حين قال: العمل المسلح هو الخيار الوحيد الذي تستطيع من خلاله أن تكون معارضا في كولومبيا.
وسقط الإتفاق مباشرة بعد معركة “جاروماليس”، التي وقعت بين شهري كانون الأول عام1984، وكانون الثاني 1985، على أثر اغتيال أحد قيادات الحركة، الطبيب “كارلوس توليدو” على يد قوات الأمن في مدينة “بوكا رامنغا”.
ودفع اغتيال “مارينو اوسبينا” قائد حركة 19 نيسان، عام 1985، القائد الجديد “ألفارو فياض” إلى الرد بأعنف عملية قامت بها الحركة، وتعتبر أكثر العمليات دموية في تاريخ الصراع الكولومبي المسلح، حيث وجّه مجموعة تعدادها 42 شخصا من خيرة مقاتليه، إلى اقتحام المحكمة العليا في قلب العاصمة بوغوتا واحتلالها، في شهر تشرين الثاني من العام نفسه.
وبعد رفض الحكومة الكولومبية اجراء مفاوضات مع الجموعة، اقتحمت قوات الجيش مقر المحكمة، ما أسفر عن مصرع عناصر الحركة جميعهم، وسقوط عدد كبير من قضاة المحكمة بمن فيهم رئيسها.
حينذاك، أصبح “ألفارو فياض” العدو الأول والأخطر في نظر قوات الأمن والجيش، الذين استطاعوا تعقب حركته والإيقاع به، في كمين محكم نصبوه له، أثناء وجوده في العاصمة بوغوتا، لحضور إجتماع قيادات الحركات والتنظيمات اليسارية الكولومبية، بغية توحيد صفوفهم، ثم ذهابهم إلى دولة “نيكاراغوا” لتكريس ما يتم التوافق عليه.
وتم رصده في شقة صديق له، وتمت تصفيته بقذائف موجهة من طائرة هليكوبتر إلى داخل الشقة، عام 1986.
“ألفارو فياض ” المفكر
كان ألفارو يفكر في توحيد التنظيمات الثورية المسلحة، تمهيدا لتفاوض أقوى مع الحكومة الكولومبية، بهدف تحقيق مصالحة وطنية شاملة، في إطار عملي يقتضي تشكيل حكومة وحدة وطنية، تحقق طموحات سائر الشعب الكولومبي في دولة حرة عادلة، تحافظ على سيادتها الوطنية، وتتخلى عن تبعيتها العمياء للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الجانب النظري والسياسي من أدبيات حركة 19 نيسان، كتب “فياض” كثيرا من الأبحاث الفكرية، التي سعى من خلالها الى إضفاء الطابع الوطني على حركته اليسارية، خارج اي تصور ماركسي/ لينيني.
ومن أقواله في هذا المجال: (سئمنا ترديد: هل قال هذه الجملة “لينين” أو ” ماركس” أو “تروتسكي”؟ إن مقاييسنا هي مقاييس القاعدة الشعبية؛ عندما يأتينا مناضل جديد، لانقترح عليه قراءة كتب “لينين”، وإنما قراءة “مائة عام من العزلة” للكاتب “غارسيا ماركيز”).
ونادى “فياض” بإنهاء سيطرة الحزبين الكبيرين: الليبرالي والمحافظ، على الحياة السياسية في كولومبيا، ورفض الوجود العسكري الأمريكي وما منحته لهم الدولة من قواعد عسكرية، ووقف في وجه تغلغل الرأسمال الأجنبي، كما نادى بوقف تدخل الجيش في السياسة.
ولم يكن “ألفارو فياض” رئيساً وقائداً لحركة 19 نيسان فحسب، بل استطاع لم شمل اليسار الكولومبي للتفاوض مع الدولة لإنهاء حقبة طويلة من العنف، تجاوز عدد ضحاياها مئات الآلاف من القتلى، وملايين من المشردين والمطرودين من القرى والأرياف.
وكانت شخصيته القيادية مثار جدل في أوساط اليسار، ومثار قلق للقيادات الأمنية التي لا يناسبها حلّ سلمي ووطني للصراع المسلح، فكانت نهايته مطلبا ضمنيا لكثيرين ممن خافوا من تحركاته، ومن هدفه، تحويل المنظمات المسلحة إلى أحزاب سياسية، تنافس على السلطة في صناديق الاقتراع؛ وما لبثت أمنيته تلك أن تحققت، ولكن بعد مقتله بسنوات.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
أشكرك استاذ عبدالناصر على هذه المقالة .