مقالات

لبناننا والتغيير الصعب..!

د. عبد الناصر سكرية/ لبنان

خاص “المدارنت”..
في الوقت الذي يتعرض لبنان لعدوان صهيوني مدمر، يستمر غياب الأطراف الوطنية اللبنانية عن المشهد، الاحزاب السياسية ذات الطابع الوطني غائبة تماما، ومثلها كل الإتحادات والروابط والنقابات ذات الطابع الوطني، غائبة أو مغيبة أو غيبت ذواتها بفعل عجزها عن التأثير في مجريات الأحداث او بفعل عدم إمتلاكها للإرادة التي تحركها، لتجعل منها طرفا مؤثرا فاعلا ذا راي بعبر عن رؤية وطنية واضحة، ما ينتج عن هذا كله غياب أيّ مشاريع وطنية تتطلع إلى إنقاذ لبنان وحمايته من كل عدوان ومن كل خطر داخلي او خارجي، إضمحلال الدولة مؤشر عميق لغياب فعالية الاطراف الوطنية كلها مجتمعة ومنفردة، الإرتهان لهذا الطرف الخارجي او ذلك مؤشر آخر عميق أيضا لغياب السلطان الوطني على مسار الأحداث..
وحدها الأطروحات العصبوية الحزبية الفئوية تتصدر المشهد وتحظى بالإهتمام وتستجر متابعتها لمعرفة ماذا تريد وإلى أين تتجه..
ففي السنوات الأخيرة، ترافق غياب جماعة متناسقة للعمل الوطني مع بدايات إضمحلال الدولة، صحيح أن النظام الحاكم كان دائما نظاما للمحاصصة الطائفية والمذهبية، وتحت رعاية دائمة للنفوذ الأجنبي؛ أطرافه قوى سياسية إما طائفية وإما مذهبية يعشعش فيها الفساد وتستمر بقوة الرعاية الدولية لها؛ إلا أن وجود قوى متناسقة تتولى العمل الوطني وتحسن التعبير عن معاناة الناس وتطلعاتهم وتقود تحركات شعبية ذات طابع مطلبي أو وطني جامع؛ كان يثمر بعض التوازن فيلجم النظام الطائفي – المذهبي عن كثير من الفضائح والصفقات والتنازلات المذلة، رغم انها لم تكن يوما قوة واحدة ذات برنامج عمل موحد إلا فيما ندر، أما في السنوات الأخيرة ومع إنتفاء وجود مثل تلك القوة الوطنية؛ فقد إندفعت أطراف السلطة الحاكمة في عصبياتها الطائفية والمذهبية، الأمر الذي زاد في إنغلاقها وتقوقعها حول ذواتها وفي زيادة حاجتها إلى الرعاية الخارجية، فزاد إرتهانها للخارج حتى صار الإرتهان ولاء عقائديا تعدى نطاق المصلحة الفئوية المباشرة، الامر الذي قادها إلى التخلي عن مقومات الولاء الوطني، ومن بينها وفي مقدمتها التزام الهوية الوطنية بابا لتفسير الوقائع والأحداث، ومن ثم بابا لتصور المستقبل وتحديد المواقف على أساسها.
وهكذا صارت هوية لبنان موضوعا متنازعا بل تنازلت جميع الأطراف عن هوية الوطن الحقيقية، لتبرير وتوكيد إرتهانها للخارج من جهة ولحاجتها لمزيد من رعاية الخارج ذاته للحفاظ على الدور والوظيفة والمكتسبات ومن ثم الوجود ذاته، وهكذا لم تعد عروبة لبنان موضوعا للنقاش، ولا حتى موضوعا متنازعا عليه، بل أصبحت وكأنها جزءا من الماضي التاريخي المطلوب التبرؤ منه.
وعلى الرغم من أن هوية لبنان العربية، كانت دائما محل جدال بين رفض وإدانة أو إلتزام؛ إلا أنها كانت دائما مطروحة في الحوار السياسي والثقافي والإجتماعي، اما في السنوات الأخيرة فقد إختفت من مجال الإهتمام وحتى من التداول، هذه السنوات هي إياها التي إتسمت بالطائفية الصرفة والمذهبية الخالصة، التي بلغت شأوا متقدما في العقل السياسي المتفاقم؛ وإنعكست بفعل ضغوط أطرافها وإغراءاتها؛ إنتشارا مفزعا في الأوساط الشعبية جميعا حتى باتت وكأنها من البديهيات المسلمات..
وكان اللافت في العقود الأخيرة أيضا؛ أن قوى جديدة ليست في أصول نظام المحاصصة، كانت تضاف إليه لتغدو بسرعة خاطفة جزءا منه متكاملا مع باقي أطرافه وقواه ..يصيبه ما يصيبهم من فساد وفضائح وصفقات على حساب الوطن، وعلى حساب مقومات الولاء للوطن، كانت تلك الإضافات تتم بفعل حاجتين متجددتين:
الأولى: حاجة الرعاية الأجنبية إلى تبديل في قوى السلطة ونظامها تبعا لأهدافها في كل مرحلة، وتبعا لبرنامج عملها المتغير المتجدد دائما وأبدا، أو إضافة قوى جديدة إليها تمنحها توجهات جديدة تحتاجها حسب مقتضيات المتغيرات الحاصلة، كل ذلك بما يخدمه في تسيير أعماله وتحقيق أهدافه..
الثانية: حاجة نظام المحاصصة إلى تجديد ذاته والإلتفاف حول أيّ تعبيرات شعبية غاضبة او أيّ ضرورات تحد من نفوذه ومصالحه، وفي كل مرة يتعرض فيها إلى هزات أو تصدعات توشك أن تقضي عليه أو تحاصره فتغير مجراه إلزاما وليس إختيارا..
تجلت الحاجة الأولى للرعاية الأجنبية في محطات ثلاثة:
1/ حينما تضافرت مع قوة النظام السوري بدخوله إلى لبنان، فإلتقت المواقف للتلخص من الوجود الفلسطيني، ومن قوة العمل الوطني المتحالفة مع القوة الفلسطينية، والتي هددت اسس النظام الطائفي في أركانه، فكان أن تحولت كل السلطة الإجرائية في مجالي الأمن والسياسة وما بينهما من إقتصاد ومال وأعمال؛ لتصبح في أيدي أركان ذلك النظام حتى غدا صاحب الكلمة الفصل في نفوذ السياسة وكل نفوذ تكتيكي متحرك متبدل، فيما أبقي النفوذ الإستراتيجي والبنيوي بعيدا عن سلطته وصلاحياته..ككل ما يتعلق بالثقافة والتربية والتعليم مثلا..
2/ وحينما إهتزت صورة “المبادرة العربية/ السورية” في لبنان، وتضعضع سلطانها بفعل أحداث كثيرة وفضائح أكثر؛ تم الإستنجاد برجل الأعمال اللبناني/ العالمي رفيق الحريري، فأدخل في عالم السياسة بقوة الرعاية الخارجية، ثم ما لبثت أن احتاجته في أمرين: إعادة الإعمار وإعطاء بعض من المصداقية، لنفوذ النظام السوري وإبقاء مقبوليته في الوسط “السني” تحديدا/ ثم العربي فيما بعد، فقد كانت الرعاية الخارجية لنظام المحاصصة اللبناني لا تزال تحتاجه وتوظفه في أمور كثيرة ليست مصلحة دولة الكيان بعيدة عنها..
3/ في مرحلة لاحقة وحينما إستطاعت المقاومة الوطنية اللبنانية، إلحاق أذى كبيرا بقوات الإحتلال الصهيوني كانت الحاجة ماسة إلى إلغاء الصفة الوطنية عن المقاومة الشعبية، لان من شأن تلك الصفة أن تنجز أهدافا قتالية/ نضالية، تفتح ابوابا للتغيير بإتجاه وطني في بنية نظام المحاصصة الطائفية/ المذهبية، وهذا ما لا يخدم أيّ توجهات لقوى الرعاية الدولية..
فكان بروز المقاومة “الإسلامية” بمضمونها المذهبي “الشيعي” مع إنطلاقة “حزب الله”، وإعلان إلتزامه الكامل بالسياسة الإيرانية، ومشروعها المتكامل في المنطقة العربية، بغطاء من إلتزام عقائدي تام بالعقيدة الدينية/ المذهبية التي تحرك ذلك المشروع وتوجهاته الميدانية..
فكان أن أفسح المجال أما قوة “حزب الله”، لتصبح جزءا أساسيا فاعلا مؤثرا ومعياريا أيضا، في بنية النظام اللبناني، فكانت وسيلة بارعة خبيثة من النفوذ الأجنبي تحقيقا لهدفين أساسيين:
الاول: إغراق قوة الحزب الشعبية ودوافعه النضالية الكبيرة والمميزة في مشابك السلطة، ولعبة المصالح والتنازعات والصفقات الداخلية، مع ما يستتبع ذلك من تدخل إلزامي في سلوكيات النظام الطائفي، وفساده وفضائحه ولعبة المحاصصة المصلحية الفئوية، وفي هذا تحجيم عظيم لتلك الدوافع النضالية وللتأثير الشعبي، بل ومحاصرتهما معا بما يتيح إمكانية الضغط والمقايضة والإبتزاز أيضا، وربما كانت تلك إحدى ثغرات عمل المقاومة “الإسلامية”، حينما وقعت في فخ منصوب وشرك ملعون بقبولها المشاركة في نظام المحاصصة المهترىء..
الثاني: ضمان إبعاد صفة الوطنية عن المقاومة حتى يمكن ضبطها أو تقييدها بالإعتبارات المحلية الفئوية الضيقة، وذلك عبر تكريس الصفة المذهبية عليها مما افقدها ذلك البعد الوطني المطلوب لحماية أيّ مقاومة شعبية في كل مكان وزمان، والجدير بالإنتباه أن سلطة النظام السوري الحاكمة آنذاك في لبنان؛ مارست بقوة الضغط والتهديد أساليب متنوعة لخنق أيّ مشاركة وطنية في المقاومة، ومن ثم تكريس وحدانيتها المذهبية..
وفيما بعد كان إلصاقها بما أصبح يسمى “الثنائي الشيعي”، إمعانا في التضييق والمحاصرة، تمهيدا للتحجيم والإضعاف والإبعاد عن قوة العمل الوطني.
(لا يعني هذا أبدا تخلي الحزب أو الثنائي عن المواقع الوطنية؛ فالعكس أن مقاومة العدوان الصهيوني في جنوب لبنان، تسهم إسهاما عظيمًا في العمل الوطني ودفع له إلى الأمام..).
ولعل موقف الحزب السلبي مما سمي “ثورة تشرين” 2019، كان أحد تجليات ذلك الحصار الذي أرادته الرعاية الخارجية على قوة الفعل المقاوم وإغراقه في وحول الداخل المحلي، الأمر الذي سمح لقوة النفوذ الاجنبي بالإلتفاف على تلك الإنتفاضة الشعبية ضد النظام الفاسد، ومن ثم إختراقها واستثمارها ما أدى إلى إفشالها، الأمر الذي أتاح للنظام المتهالك المزيد من العدوان على المواطنين كافة، بدءا من سرقة مدخراتهم في البنوك..
أما حاجة النظام ذاته إلى تجديد ذاته فكانت تتم عبر وسيلتين أساسيتين:
الاولى: بالإستعانة بوجوه جديدة ليست من ميراث السياسة العائلية التقليدية وبيوتها، فكانت تنضم إلى النظام لتنصهر بسرعة قياسية في سلوكياته ونهجه ومفاهيمه، تشارك في صفقاته وفضائحه وفساده، وهي من الوجوه التي تخضع لقوى النفوذ الأجنبي الظاهرة أو الخفية، التي كانت ولا تزال هي من يعين الكبار سواء في العمل الحكومي التنفيذي او في الجانب التشريعي..
الثانية: عبر تغيير قانون الإنتخابات النيابية والبلدية والتقسيمات الإدارية والتحالفات الإنتخابية، فكانت تعدل أو تغير تبعا للمشكلات التي يواجهها النظام ككل أو يعانيها أحد أو بعض أركانه الأساسيين، فتأتي التغييرات بما يضمن التجديد لذات البنى والقوى الطائفية والمذهبية، وما ضمته من وجوه جديدة تابعة لسلطان النفوذ الأجنبي..
لهذه الأسباب مجتمعة يستعصي واقع لبنان على التغيير، رغم جهود كثيرة بذلت في سبيله، وللتذكير والإجمال فهي تتمثل في أسباب ثلاثة أساسية:
1 – غياب قوة للعمل الوطني متماسكة متناسقة ذات رأي وفعالية ورؤية…
2 – الرعاية الدولية لنظام المحاصصة الطائفي/ المذهبي الفاسد، وحمايته وتزويده بما يمكنه من البقاء والإستمرار..
3 – نجاح النظام ذاته في إختراق المجتمع اللبناني، وتقسيمه طائفيا ومذهبيا وفئويا وفرض وسائل التبعية والإرتهان، وربط مصالحه اليومية المباشرة بتلك التبعية لأركان النظام حسب توزيعات خبيثة ملزمة..
ورغم الحرب الأهلية التي إمتدث خمسة عشر عاما، وما جرى فيها من دماء ودمار وخراب وتهجير؛ إلا أن تغييرا نوعيا في بنية النظام أو طبيعته، لم يحصل، وإن جزئيا، والحق يقال، إن إستمرار قوى الحرب في تولي مسؤوليات صناعة السلم في مرحلة ما بعد الحرب، أجهض كل أمل في التغيير، مع العلم أنه تغيير كان متاحا وممكنا بعد الحرب وحيث رفعت قوى وطنية شعار: “إزالة آثار الميليشيات” التي كانت في وضع شعبي متراجع ومكشوف؛ إلا أن فعالية النفوذ الأجنبي بالمشاركة مع سلطان النظام السوري، منع ذلك التغيير، وأعاد فرض ذات الميليشيات كأطراف حاكمة تتقاسم السلطة والدولة ومؤسساتها..
ورغم أن “إتفاف الطائف” الذي أنهى الحرب اللبنانية؛ قد تضمن بعض الإيجابيات المهمة، والتي لم تطبق عمليا؛ إلا أنه حمل في جوهره بذرة “إضمحلال الدولة”، التي تمثلت بتوزيع الصلاحيات المركزية الرئاسية على مجلس الوزراء مجتمعا، وهو البند الوحيد الذي تم تطبيقه عمليا، وفتح الباب أمام ما يُسمّى “الثلث المعطل”، وتعطيل مسيرة الدولة ومؤسساتها، فباتت شبه مشلولة ولا تزال…
فهل إستحال التغيير في لبنان؟ّ

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى