لبنان بين التقوقع الطائفي والإرتهان الأجنبي..!
خاص “المدارنت”..
يعيش اللبنانيون، أياما صعبة بسبب العدوان الصهيوني المستمر على لبنان، وما يسببه من ضحايا ودمار وتهجير.. ومما لا شك فيه انهم يتطلعون بلهفة الى يوم توقف العدوان وإنتهاء الحرب، فهم ليسوا في وضع المؤهلين لحرب إستنزاف طويلة، فلا المؤسسات العامة فاعلة، ولا الإمكانيات الإقتصادية متاحة بما يخفف على الناس أعباء الحرب المعيشية..
وما يطغى على سطح الحركة السياسية الساعية الى إنهاء الحرب؛ توجهات لا تملك من الرؤية الموضوعية للواقع اللبناني، ما يؤهلها لتكون البديل عن الأمر الواقع والمنقذ للبنان من “ضلال التابعين”، كما يصفون الأطراف التي لا تثق كثيرا بالدولة، وقدرتها على تولي الأمور بما ينفع الوطن وليس بعض المصالح الفئوية الخاصة..
يبدو “حزب الله”، غير متعجّل لعقد أيّ تسوية تنهي الحرب مهما كانت، رغم كل الخسائر الجسيمة والأثمان الفادحة التي دفعها حتى الآن..
ومع أن من يدفع الثمن الباهظ هم أنصار الحزب وبيئته المذهبية، إلا أن المتعجّلين إنهاء الحرب من القوى السياسية، في غالبيتهم، ينتمون الى معسكر آخر، يحمل توجهات مغايرة وله ولحساباته الخاصة، التي ليست البديل الأفضل عن واقع الحرب الراهنة..
يتزعم حزب “القوات اللبنانية”، معسكر الرافضين للحرب في الأصل والأساس، ليس بسبب ما تؤدي إليه من تدمير وضحايا لبنانيين، ولكن لأسباب منهجية مبدئية أخرى، على ما يبدو وما تنبئ به المواقف والحوادث التاريخية القريبة والبعيدة..
وللإنصاف، فإن فريقا كبيرا من اللبنانيين يطالبون ويتمنون إنتهاء الحرب، بسبب حرصهم على وطنهم وأبنائه، وحرصا على أرزاقهم وممتلكاتهم وأرواحهم، وهؤلاء ينتمون إلى كل الطوائف والمذاهب، ولا يجمعهم نهج سياسي أو حزبي واحد..
أما في الأوساط “السنّية”، فلا وجود لقوى سياسية فاعلة أو ذات شأن يحسب لها حساب، رغم ظهور أصوات ناشزة رافضة للحرب من موقع الشماتة، إستنادا إلى خلافات محلية سابقة تسبب فيها الحزب بأذيات لبعض الجهات..
المؤسف غياب القوة الوطنية وأحزابها ومؤسساتها عن ساحة الفعل والعمل، فتسقط من الحساب..
ثمة نوع من الوجدان الخاص في الاوساط المسيحية، يرفض فكرة الحرب من أساسها، وينظر إليها بإعتبارها خطرا على الكيان بالمفهوم الضيّق، من دون إعتبار للظروف الموضوعية التي تشكل الوضع اللبناني الراهن..
تتزعم هذا ثلاثة تيارات أساسية في الشارع المسيحي، هي” “التيار العوني” وحزبيّ “الكتائب” و”القوات” اللبنانية.
بداية، لا بد من الإنتباه إلى حقيقة أن المشاعر الإنغلاقية التعصبية، تزايدت في العقود الأخيرة في جميع الأوساط اللبنانية، لأسباب كثيرة، في مقدمتها أن جهات دولية كثيرة وفاعلة جدا تملك من الإمتدادات المحلية – وفي كل الاوساط أيضا – ومن قوة النفوذ والتأثير، ما مكّنها من نشر وتدعيم التفكير المذهبي والطائفي الإنقسامي الفئوي، طبعا، بالإضافة الى نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، الذي كرّس نهج التعاطي بالعقلية التعصبية لدى غالبية اللبنانيين..
أما القوى الحزبية المسيحية، فهي تنطلق في مواقفها الراهنة من إعتبارات مبدئية ودينية وتاريخية، تجعلها ترى الأحداث بمنطلقات مختلفة تماما..
تتأسس نظرة هذه القوى الحزبية على ركيزتين ثابتتين في معتقداتهم السياسية:
الأولى: عدم الإعتراف بهوية لبنان العربية، الأمر الذي يضعهم في مواقف متناقضة في علاقاتهم بالعرب والعروبة، فتقتصر علاقاتهم بهم بالمصالح والعوائد المادية المباشرة..
يترجم هذا الإنكار بمقولات متنوعة من مثل أن العرب المسلمين، إحتلوا لبنان، وإستعمروه كما استعمره غيرهم، كالرومان والعثمانيين وسواهم، وأن صراعا مستمرا بين المسلمين والمسيحيبن، منذ 1400 سنة، وأن لبنان، جزءًا من الحضارة الغربية أو إمتداد لها، وسوى ذلك من الافكار التي كان التثقيف الإستعماري الفرنسي المسؤول الأول عنها..
ومع ان مثل هذه الافكار المباشرة بصياغاتها الجافة، قد شهدت ظهورا كثيفا في سنوات الحرب اللبنانية في سبعينات القرن العشرين؛ ثم خفتت كثيرا في العلن، وإن بقيت تلعب دورا مهما في صناعة وعي مسيحي، وتحريض طائفي، يمهد لفكرة التقوقع السكاني بكل أبعاده: جغرافيا وسياسيا وحتى إداريا وتنظيميا..
وهي أفكار تطل برأسها بين الحين والآخر بصيغ مباشرة؛ كما في تصريح “نائبة برلمانية” عن حزب “القوات” (د. غادة أيّوب)، منذ مدة قريبة، تتحدث فيه عن الصراع المستمر بين المسلمين والمسيحيين منذ ظهور الإسلام..
هذا لم يمنع تلك القوى من التعامل المصلحي النفعي مع أطراف عربية عديدة، كما جعلها في موقع الملتزم بالتعاطي الملتزم بالسياسة الغربية والفرنسية تحديدا لفترات طويلة، وحينما ضعف الدور الفرنسي على مستوى العالم كله؛ إنتقل الإلتزام إلى الجهة النافذة الجديدة، أيّ الولايات المتحدة الأميركية..
الثانية: عدم إعتبار “دولة إسرائيل” عدوًا للبنان، الأمر الذي يجعلهم لا يرفضون التعامل معها كدولة مجاورة للبنان، مع قابلية التعايش “السلمي” معها..
وهذا ما جعل الاطراف الثلاثة تتعامل مع دولة الكيان الصهيوني في مراحل مختلفة من عمر لبنان الحديث، تعامل شمل تلقي مساعدات عسكرية وتدريبات ومعسكرات وتبادل أمني وغير ذلك..
هذه المنطلقات العقيدية وضعت أصحابها في موقف الرافض لفكرة المقاومة من أساسها، قبل “حزب الله” وبعده، والرافض بالتالي لفكرة المصير العربي الواحد وأن لبنان كيان قائم بذاته، فلا إلتزامات عليه في أيّ موضوع يتعلق بفلسطين أو أيّ قضية عربية أخرى..
هكذا كان الموقف من الثورة الفلسطينية، سابقا، أيام تواجد منظمة التحرير في لبنان، مع أن العنوان كان دائما رفض إنتهاك السيادة اللبنانية، وتشكيل دولة داخل الدولة؛ إلا أن جوهر الموقف يعبر عن الثوابت العقيدية من الهوية وقضية فلسطين، وتأتي احداث كثيرة لتبين أنها ثوابت لم تتبدل، وإن طرأ على لغة التعبير عنها تغييرات شكلية وسطحية..
ومع أحقية وضرورة إتمام بناء دولة حقيقية لها مؤسساتها الفاعلة والمحترمة، يسودها العدل والقانون والمساواة؛ كهدف لا مجال للتشكيك بأهميته وأولويته؛ وأن سيادة مؤسسات الدولة فوق الجميع أفرادا وأحزابا؛ إلا أن إسقاط واقع لبنان الجغرافي والتاريخي، لا يعزز ذلك الهدف، بل يضعفه ويجعله غير قابل للتحقيق، وهذا ما يجعل رغبة التقوقع بعيدا عن الإنتماء الوطني يحظى برعاية أصحاب تلك المقولات، مما يمهد لنوع من التقسيم تحت حجج من نوع “لا يشبهوننا ولا نشبههم”، وأن لبنان غير معني بالتضامن مع فلسطين، ومن الموضوعي القول أنه ليس في مقدور لبنان، تحمل تبعات مقاومة دولة الكيان خارجا عن عمل عربي مشترك ورؤية عربية متكاملة، يتحمل فيها الجميع مسؤولياتهم ونصيبهم من الأعباء، تبعا لإمكانيات كل بلد، وفي غياب مثل هذا البرنامج العربي الواحد لا يستطيع لبنان، الدخول في حرب مع العدو الصهيوني منفردا وخصوصا في مثل ظروفه الراهنة، حيث لا فعالية للدولة المضمحلة مؤسساتها بفعل عوامل كثيرة، ليس الثنائي “الشيعي” وحده مسؤولا عنها..
لا يعني هذا إلغاء فكرة المقاومة وضرورتها وأحقيتها، كأولوية لازمة في الشأن اللبناني والسياسة اللبنانية، نظرا للخطر “الإسرائيلي” المتصاعد على لبنان وأطماعه فيه، إلا أن تنظيم هذه الأولوية يحتاج الى مقومات أخرى غير متوفرة إلى اليوم، وفي مقدمتها مشروع وطني متكامل، تسنده جبهة وطنية شعبية عريضة منبثقة عن وحدة وطنية شعبية، وإن بقي خارجها مَن لا يعتبرون “إسرائيل” عدوًا..
ومن اللازم تذكير الجميع أن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، مستمر منذ 1948، ومجازره بحق اللبنانيين بالعشراتـ وهي سبقت وجود “حزب الله”، وستبقى معه وبعده،
ما لم تنظر تلك القوى بموضوعية الى حقائق التاريخ والجغرافيا التي تشكل لبنان، فإنها سوف تستمر في الولوج إلى مزيد من التقوقع بحجة حماية الوجود المسيحي، ومن ثم الحاجة إلى مزيد من الحماية الأجنبية، وما الإستعانة بأميركا للتخلص من “الوصاية” الإيرانية، إلا تأكيد على هذا، وصاية أجنبية تُستبدل بوصاية أجنبية أخرى..
إن هوية لبنان العربية، ليست هبة من أحد، وليست منّة من أحد، كما إنها ليست عبئًا على أحد، فهي حقيقة إنتمائه إلى بقعة جغرافية ممتدة عبر الوطن العربي كله..
أما الوجود المسيحي، فالخطر الحقيقي عليه، هو المشروع الصهيوني، وليس أيّ جهة عربية أو مسلمة..
ولن يكون في أمان وإستقرار إلا في إطار إنتمائه الوطني أولا ثم العربي، متفاعلا معه في ضوء حقيقة وحدة المصير العربي، وتحديدا في مواجهة الخطر الصهيوني الإستعماري التدميري..
كذلك، فإن فعل المقاومة، لن يكون مثمرا وفاعلا إلا في إطار إنتمائه الوطني، أولا، ثم العربي، بمعنى أن الإلتزام بهوية لبنان العربية، أساس أي عمل وطني مقاوم، كمان أن الإلتزام بلبنان، وطنا واحدا لجميع اللبنانيين، أساس أيّ سعي لبناء دولة حقيقية فيه..
إن الإنتماء الوطني في إطار إلتزام واضح بعروبة لبنان، هو المقدمة اللازمة لإنقاذ لبنان، من الفتن الطائفية والمذهبية، ومن الإرتهان الى أيّ جهة خارجية، كمدخل لبناء دولة العدل والمساواة والقانون، ولردع العدوان “الإسرائيلي” وأطماعه وأخطاره..
وكل مشروع “تصغيري” للبنان، تحت أي مبررات، لن يكون إلا على أنقاض الوطن، ومدخلًا لهيمنة صهيونية عليه..