تربية وثقافةمقالات

لـغـتـنـــا هـويـتـنـــا

فـاروق حـمّــود

خاص “المدارنت”

أوجد الله الكون منذُ القدم، ومعه وُجِدتْ المخلوقات، وارتبطت فيما بينها في النوع والجنس والجغرافية، وظروف الحياة حلوها ومرها، فتعايشت فيما بينها وتآلفت، وكان من الضروري لها أن تتمايز كلّ مجموعة بطرق تواصلها وبوسائل تعبيرها فيما بينها عن غيرها.

لذلك كان على الإنسان – أرقى مخلوقات الكون- أن يطوّر وسائل تواصله وتعبيره، وكيف لا، وهو من أكرمه الخالق بالعقل والإدراك، وبالتالي قدرة النطق التي تساعده على صناعة الكلام.

الإنسان المخلوق الإجتماعي بطبعه وفطرته، جُبـِل على أن يعيش ضمن جماعات متآلفةٍ متنوعةِ، من أسرة إلى عائلة إلى قبيلة إلى قومية إلى أممية، بالتالي، وجدَ نفسه مضطرا لإيجاد وسيلة للتواصل مع مجموعته التي ينتمي إليها، فأخذ التمايز بين هذه المجموعات يظهر في التعابير الصوتية المستخدمة لهذه الغاية، واعتمدت كل فئة منهم أصواتأً معينة لتعابيرها ونداءاتها في التواصل، ثم طورتها، وقعَّدَتها، حتى أصبح لها قواعد ونظم وقوانين خاصة بها، فوجِد لكل مجموعة لغة خاصة تميزها عن الأخرى، وبالتالي، تـُميزُ المتكلم، فوفقا لكلامه ولغته نعرف انتمائه، حتى شكلت هذه اللغة هويته. وأضحت كل قبيلة أو أمة لها لغتها التي تعتز بها وتمثلها .

من هنا، بدأت هذه الشعوب بمحاولة التمدد والسيطرة بلغتها لإظهار تفوقها وتميزها، ولإثبات قدرة وقوة لغتها أمام اللغات الأخرى في التعبير الأفضل والأسهل، كيف لا؟ والإنسان بطبعه مفطور على حب التميز والتفوق عل الغير، وهو مجبول بحبّ السيطرة، إيجابية كانت أم سلبية.

بناء عليه، نجد أن كل القوى التي انتصرت عسكريا، وسيطرت على الأرض بالقوة أو بالسلم، لا تألوا جهدا في السعي الى تدمير لغة الخاسر، وتثبيت لغتها لتثبيت هذا الانتصار، وجعله مستمرا لأطول مدة ممكنة بربط هذا الخاسر لغويا بها، ودمجه ثقافياً بمجتمع المنتصر.

وهذا ما بدا جليا، في محاولة المستعمرين بعد الحرب العالمية الثانية، على تغيير لغات البلدان التي استعمرتها، فسعت الى سلخ المجتمع عن لغته الأم، ومن ثم سلخه عن عمقه الحضاري والثقافي والتاريخي، ليسهل فيما بعد الإمساك بزمام أمور هذه الدول المُستَعمَرَة، والوصول إلى جيل لا يدرك من لغته وتاريخه وحضارته أي شيء، بل وأكثر من ذلك، دمجه اجتماعيا بما يناسب المستعمر، وتجريده من عاداته وتقاليده، وطمس هويته إلى الأبد، وما دول الشمال الأفريقي العربية – تونس والجزائر والمغرب- إلا خير دليلٍ على زوال اللغة العربية في جيلٍ كامل، وبالتالي، زوال الانتماء العربي لهذا الجيل، وارتباطه اجتماعيا بمن استعمره.

بما أن اللغة العربية، التي تشكل هوية الشعب العربي المنتشر في دول أنشأها المستعمرون بخلق حدود وهمية لها، لغة ُأمةٍ لها امتدادها التاريخيّ والحضاريّ والجغرافيّ، كانت نصب عيون المستعمر، العمل على إنهاكها وتدميرها وإزالتها وسلخ ابنائها عنها، لأنها الوسيلة الأقوى في جمع هذه الأمة وتواصلها والتقائها ووحدة نهجها، وبالتالي، قوتها التي يوما ما كانت خطرًا داهمًا على الكثير من اللغات، أي القوميات، فكان من الضروري العمل على موتها.

لذلك، ما زالت هذه القوى التي خرجت عسكريا من بلادنا العربية، تعمل بأساليب جديدة لتقويض أسس هذه اللغة، للتمكن لاحقـًا من إلغاء كامل الهوية العربية من جذورها، فاستعملت شياطينها، الذين أسست لوجودهم في حقبة الإستعمار، ليكون منشأ المرض في صميم مجتمعاتنا، من دون أن تظهر هي بشكل مباشر، فتستفز بهذا الظهور الشعور القومي، ما يجعل المهمة أصعب، وللمثال لا للحصر، عملت جاهدة على إضعاف الملكة اللغوية بين الناس، ليس بالمواجهة المباشرة التي تفضح مكيدتها، بل من باب تسهيل فهم اللغة، والعمل على تنويع اللهجات والألسن، وذلك، بعد ما أشاعت عبر شياطينها، أن اللغة العربية كما هي صعبة الفهم،  لا بد من تسهيلها .

إن صراع الحضارات الحتمي، إنما يتجلّى في أوضح صوره بالتفوق اللغوي، والإنتماء اللغوي، وإلغاء هوية الآخر، فاختر يا صديقي أيّ هوية ستحمل، وسيحمل ورثتك .

                                                                                     

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى