لماذا ألغى ترامب العقوبات على سوريا؟

“المدارنت”
من يفضل الوجبات السريعة على الوجبات الدسمة فليمتنع عن متابعة القراءة. فهذا تحليل تفصيلي لوضع مجريات الأمور في سياقها السياسي بعد التحول الكبير بوقف العقوبات.
لم يتوقع أكثر المتفائلين رفع العقوبات كلها، وخاصة قبل تنفيذ القيادة السورية الجديدة كل أو معظم الشروط التي سلمتها واشنطن للشيباني في بروكسل، وقد تندر بعض باستعلاء أبله بالمحللين واتهموهم بالجهل، لكن التحليل السياسي ليس تنجيماً بالمستقبل، بل تفسير للحاضر بكل أحداثه، فماذا تغير في الحاضر لتتغير التوقعات؟
كان تغيير الإدارة الأمريكية لسمات الدبلوماسيين السوريين، قاطعة للشكوك في السلبية تجاه القيادة السورية الجديدة، وقد حاول البعض تخفيفها بالادعاء بأنها إجراءات إدارية، لكن الحقيقة أنها خطوة سياسية لا تتجرأ إدارة الهجرة ولا حتى الخارجية الأمريكية على اتخاذها دون الرجوع للقيادة السياسية العليا في البيت الأبيض، وإلا لماذا تأخر ذلك لأكثر من ثلاثة أشهر من التحرير وجاء مباشرة بعد الإعلان الدستوري والحكومة المؤقتة؟ لأنهما جاءا بغير ما توقعت ولا رغبت الإدارة الأمريكية برؤيته في سورية الجديدة. هذا، وما أكدت عليه تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ما حدا بجميع المحللين السياسيين للتوقع وبقوة عدم رفع العقوبات الظالمة.
لكن التغيير الأمريكي جاء بعد عدد من الأحداث الكبيرة التالية:
الخسارة المدوية التي واجهها ترامب أمام الصين التي تشكل التحدي الأكبر لأمريكا، فقد خسر بجدارة معركته ضدها في حرب التعريفات الجمركية، كما اضطر أيضا لوقف حربه في هذا الشأن مع العديد من دول العالم.
كذلك فشل بجدارة في ضم كندا كولاية جديدة للولايات المتحدة، وفشل في انتزاع السيطرة على غرينلاند وعلى قناة بنما، ولم يتحقق له مرور السفن مجانا في قناة السويس، وفشل في تحقيق وعده الانتخابي بوقف الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، بالرغم من البلطجة على الرئيس الأوكراني، وتهديد الرئيس الروسي. كما فشل في إنهاء الحرب على غزة وإطلاق سراح الأسرى لديها. وبالمختصر فشل في معظم ما كان يظن أنه قادر على تحقيقه بسهولة ويسر.
لكن القشة الأخيرة جاءته من حيث لم يتوقع بنتيجة المواجهات بين الهند والباكستان، إذ استطاعت الأخيرة بالأسلحة الصينية التفوق عسكرياً على الهند ذات الأسلحة الغربية، مما غير جميع المعادلات التي قام عليها التفوق الأمريكي على الصين، فادرك ترامب أن عليه إعادة حساباته الاستراتيجية قبل فوات الأوان.
واكتشف أن أمريكا بحاجة للآخرين وليس العكس، وأن عليه ان يعيد الولايات المتحدة لما كانت عليه من نفوذ عالمي ليتمكن من إعادة تموضعه في مواجهة العملاق القادم من الصين اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً. فاتخذ قراراً بإنهاء بؤر التوتر في العالم، في محاولة لإعادة نفوذ أمريكا إلى المناطق التي بدأت الصين في اختراقها وأهمها الخليج العربي والشرق الأوسط، فخفف من لهجته واندفاعه التهديدي لإيران، ووضع ثقله في المفاوضات النووية معها بدلاً من تهديدها بحرب شاملة، واضطر لإهمال نتنياهو وطلباته التي لا تتفق مع ذلك، وتوصل لاتفاق مع الحوثيين كبادرة حسن نية تجاه إيران، وتحقيق لمصلحة أمريكية منفصلة عن مصلحة إسرائيل.
فيما يخص العرب دخل في محادثات مباشرة مع حماس وأطلق سراح أسير أمريكي بالرغم من الاعتراضات الهائلة من نتنياهو وجماعات ضغطه في أمريكا، وبدأ زياراته الخارجية المقررة مسبقاً في منطقة الخليج وحقق خلالها صفقات تجارية ضخمة، ولكن الأهم كان إعادة ارتباط الخليج بالولايات المتحدة كحليف موثوق، بعد أن توجهت السعودية للصين وأبرمت بعض الصفقات معها، وبعد أن تراجعت ثقة دول الخليج بالدعم الأمريكي لها. وكان من بين المطالب الأساسية لدول الخليج رفع العقوبات عن سورية نتيجة للجهود الجبارة التي بذلها الشرع مع دولهم. وبما أن لسورية أيضاً قيمة جيوبوليتيكية عالية في الإقليم يتحتم كسبها لا معاداتها، غير ترامب موقفه المتزمت السابق، فحول الشروط التي سلمتها إدارته للشيباني إلى مطالب للتنفيذ بعد رفع العقوبات، وليس قبلها.
ولم يكتف بذلك بل أشاد بالشرع ليؤكد على إمكانية استمرار تطور العلاقات مع سورية، بعد أن رأى أن الشرع استقبل وفدين صينيين قدما إلى سورية لبحث التعاون بين سورية والصين. لكنه لم يترك الأمر دون ربطه بالمستقبل في تعليقاته على لقائه بالشرع وبأمله في اتخاذ الأخير قرارات مصيرية بشأن سورية.
ستحسن الإدارة الجديدة صنعاً إذا استطاعت التعامل بمرونة وحكمة مع التغيير في السياسة الأمريكية تجاه سورية، واعتبرت ما حدث نصراً مؤقتاً ومرحلياً مشروطاً بتحقيق المطالب الأمريكية، فقد قالها بوضوح المتحدث باسم الخارجية الامريكية صامويل ويربرغ بقوله “أن رفع العقوبات سيكون تدريجيًا وسيخضع لإجراءات قانونية وإدارية متعددة، وبعض العقوبات تتطلب موافقة الكونغرس لرفعها”.
وأوضح أن “المطلوب من الإدارة السورية الجديدة هو تشكيل حكومة تمثل جميع السوريين بغض النظر عن الدين أو العرق، حكومة تتصرف بمسؤولية ولا تشكل خطرًا على جيرانها، وقادرة على ممارسة السيطرة على كامل الأراضي السورية لضمان الأمن والاستقرار، وذلك من خلال التخلص من المقاتلين الأجانب الذين يؤججون العنف والطائفية.” وأكد ويربرغ أن “هناك خطوات عديدة قبل الوصول إلى التطبيع مع حكومة الشرع، وأن تقييم الحكومة سيتم بناءً على أفعالها وليس أقوالها”.
الكرة الآن في ملعب القيادة السورية وأن الجهود لم تنته بل بدأت لتعدل مسيرتها لاستيعاب المطالب المذكورة، لأن البديل سيكون التضحية بالأمانة التي حملتها تجاه الشعب السوري والدولة السورية والعودة للوضع السابق، ذلك أن الإدارة الأمريكية ستقيم رد فعل القيادة في سورية، وستوقف رفع العقوبات مالم تر تغييراً كبيراً في الوضع الحالي، خاصة بوجود المتربصين بسورية من مسؤولين أمريكيين اساءهم رفع العقوبات وسيعملون لعرقلة رفعها.
ملاحظة للبعض ممن لا يعجبهم العجب: هذا التحليل السياسي لا يقلل من قيمة الجهود التي بذلتها القيادة السورية الجديدة والأشقاء العرب ومعهم ومع غيرهم لرفع العقوبات الظالمة على الشعب السوري، بل يعطيها حقها ويضعها في سياقها.