لماذا استعصت الديموقراطية على العقل العربي؟

“المدارنت”
هل نحن ضحايا أنظمة مستبدة فقط؟ أم أن في الفكر والثقافة والمجتمع ما يعطّل الحرية من الداخل؟
كتبت ورقة تأملية أعتبرها خلاصة رحلة طويلة في الفكر والسياسة والمجتمع. ولأن الموضوع واسع ويتطلب التأني، قررت أن أشارككم هذه الورقة على شكل سلسلة من المنشورات المجزأة، اتناول فيها، بتدرج، ملامح هذا الإشكال وأصوله وإمكانيات تجاوزه.
سأكتب بلسانٍ شخصي، لكنه ليس فرديًا. هو صوت ابن رشد، والكواكبي، وغرامشي، وكل من آمن أن الديمقراطية ليست “نظام حكم”، بل “أسلوب وجود”.
البداية
أنا رشديّ العقل، كواكبيّ النزعة، غرامشيّ الثقافة. قضيت عمري أحلم وادعو إلى تبنّي الديمقراطية لا كسلعة غربية، بل كقيمة عربية ضائعة، كحق أصيل في التفكير، والاختلاف، والنقد، والحكم بالعدل. عشت في باريس بدايات ثمانينات القرن الماضي، حيث ترى على أرصفة الحي اللاتيني أعراق الأرض تتحدث بلغات العالم، حيث الضجيج هو موسيقى الحياة، والتعدد فضاء طبيعي لا تفرضه قوانين بل تحتضنه الثقافة. وهناك، في مدن كهذه، تعلمت أن الديمقراطية ليست نظام حكم فقط، بل أسلوب وجود ، وجود يعترف بالإنسان ويحترم انسانيته وخصوصيته، بغض النظر عن لونه او دينه او جنسه او جنسيته.
لكنني، في المقابل، رأيت كيف أن العقل العربي ، رغم شموخ تراثه الفلسفي والسياسي، قد تعثّر، كيف خُنق السؤال، وذُبح الاختلاف، وصارت الديمقراطية عندنا مطلباً مستورداً لا نابعاً من الداخل، وكأننا لم ننجب ابن رشد، ولا الكواكبي، ولا حتى الأصوات المتمردة التي رفضت الخنوع.
2- ليست الديمقراطية سؤالاً سياسياً فحسب، بل سؤالاً حضارياً يمس جوهر وجودنا المعرفي والاجتماعي.
لماذا لم تُزهر الديمقراطية في عالمنا العربي، رغم قرن كامل من الثورات، والانقلابات، والتجارب الدستورية، و”ربيع عربي” أغرقته الدماء قبل أن يلامس الثمار؟
هل المشكلة كامنة فقط في الأنظمة السياسية التي حكمتنا بالحديد والنار؟
أم أن جذورها أعمق تمتد إلى بنية التفكير، ونمط التربية، وتداخل المقدس بالسياسي، وتمجيد الجماعة على حساب الفرد؟
لقد تبنّت مجتمعاتنا شعارات الديمقراطية، وراحت تبني الأحزاب وتنظّم الانتخابات، لكنها غالباً ما عجزت عن ترجمة هذه المظاهر إلى مضمون حقيقي. ظلت الديمقراطية سطحاً بلا جذر، واحتفالاً بلا روح، تُخنق فيه الحرية باسم المقدّس، ويُقصى فيه الاختلاف باسم الوحدة، ويُعاد إنتاج الاستبداد في كل مفصل من مفاصل الحياة، من البيت إلى المدرسة، ومن المنبر إلى البرلمان.
ومن هنا تطرح هذه الورقة سؤالها الجوهري: هل يمكن أن تُبنى الديمقراطية في العالم العربي من الداخل، عبر تحرير الفكر، وإعادة تشكيل الثقافة، وتفكيك بُنى التسلّط في النفس والمجتمع؟
3: ثلاثية المفكرين: ابن رشد، الكواكبي، وغرامشي — أيقونات التحرر
في رحلتي الفكرية، وجدت في ثلاثة أسماء مرآة أفكاري: ابن رشد، عبد الرحمن الكواكبي، وأنطونيو غرامشي.
ابن رشد لم يكن مجرد فيلسوف يشرح أرسطو، بل كان مشروعاً لتحرير العقل من أسر التقليد، مؤمناً أن العقل ينقذ الدين من التوظيف السلطوي.
الكواكبي، الذي لم يكتفِ برفض الاستبداد السياسي، بل ربط بين الاستبداد والتعليم والدين، واعتبر أن التغيير لا يأتي من السلطة بل من تفكيك ثقافة الخضوع في النفوس.
أما غرامشي، فقد أعاد تعريف دور المثقف، حين أكد أن المعركة الحقيقية هي ثقافية، وأن المثقف العضوي هو من يصنع الوعي ويقاوم الهيمنة الثقافية.
هذه الشخصيات ليست من زمن واحد، لكنها تتقاطع في رؤيتها: أن الديمقراطية تبدأ من تحرير العقل، ومن بناء وعي ثقافي مقاوم للاستبداد.
4-: ابن رشد: العقل والدين في مواجهة الاستبداد
ابن رشد رأى أن العقل لا يتناقض مع الدين، بل هو السبيل لتحريره من السيطرة السلطوية التي تخنق الفكر.
هو الذي رفع شعار البرهان وحرية النظر، معتبراً أن الاجتهاد والحوار هما جوهر الدين الحقيقي.
لكن مأساة ابن رشد ليست فقط مصادرة كتبه، بل أن إرثه العقلاني أُقصي في الثقافة العربية، ليحل محله اجتهاد مغلق وهيمنة فكرية تعطل الديمقراطية الحقيقية.
إذا أردنا دمقرطة عقلنا وثقافتنا، فعلينا أن نبدأ من هنا: بتجديد عقلنة الدين وفك أسر التقليد.
5: الكواكبي: الاستبداد كثقافة للخضوع
عبد الرحمن الكواكبي لم يشرح الاستبداد من باب السياسة فقط، بل كشأن اجتماعي وثقافي يغلف كل جوانب الحياة.
في “طبائع الاستبداد” كشف كيف يتم زرع الخضوع في النفوس، وكيف تُبنى مجتمعاتنا على الطاعة المطلقة، لا على النقد والمسائلة.
كان يرى أن الثورة الحقيقية تبدأ في الوعي، بإعادة تشكيل القيم التي تربينا عليها، وبكسر قيود الخضوع التي تسمح للسلطة بأن تستمر.
الثورة ليست فقط إسقاط أنظمة، بل كسر ثقافة الطاعة المزروعة في داخلنا.ما لم نحرر عقولنا سنعيد انتاج الإستبداد بألف شكل وشكل.
6: غرامشي: المثقف العضوي وصناعة الوعي المضاد
أنطونيو غرامشي جعل من المثقف قلب المعركة الثقافية ضد الهيمنة، حين طرح فكرة “المثقف العضوي”، الذي لا يعيش في أبراج عاجية، بل في قلب المجتمع.
هيمنة السلطة ليست مجرد عنف، بل هي سيطرة على الثقافة والقيم، تجعل الناس يرضخون طوعاً.
في عالمنا العربي، تغيب هذه النخب المثقفة التي تصنع بدائل ثقافية، فنظل أسرى ثقافة الاستبداد التي تحكم العقول قبل الأجساد.
نحتاج لمثقف يشارك الناس حياتهم وهمومهم، ويقودهم نحو وعي جديد.
7- نحو نهضة ثقافية من الداخل
إن الديمقراطية، كما تبين، ليست نظاماً يُستورد، بل مناخاً يُبنى بالعقل الذي يسائل، لا يُقلد.
بالفرد الذي يرفض أن يُذاب في الجماعة دون أن ينقطع عنها.
بالثقافة التي تحتضن التعدد بدل أن تلعنه.
ولهذا، فإن أي مشروع ديمقراطي في العالم العربي لا بد أن يبدأ من الداخل:
من إعادة الاعتبار للعقل النقدي، لتكون التربية لا على الحفظ، بل على السؤال.
من تحرير الدين من هيمنة السياسة، وتحرير السياسة من عباءة القداسة.
من تعزيز مفهوم المواطنة، لا كهوية قانونية فحسب، بل كعلاقة يومية تقوم على الحقوق والمسؤوليات.
فلا معنى للانتخابات حين تظل العقول تصوّت للطائفة والمذهب لا للفكرة والمشروع،
ولا جدوى من دساتير جميلة ما دامت القيم الحاكمة للعلاقات الاجتماعية تعيد إنتاج الخضوع باسم الطاعة.
8- عن المثقف ودوره في صناعة التحوّل
لكن هذه النهضة لا تُبنى من فراغ.
تحتاج من يشعل الأسئلة في العقول، من يربط الجسور بين الفكر والناس.
هنا يأتي دور المثقف لا كمنظّر معزول، بل كمثقف عضوي، على طريقة غرامشي.
نحتاج إلى من يخوض معركة الوعي من الداخل،
من الصحافة إلى التعليم، من المجتمع إلى الهامش، من الداخل إلى المنافي.
إلى من يعيد للكلمات معناها، وللأفكار بريقها، ويكشف زيف الخطابات التي تُطبع على وجدان الناس.
وحين يتحوّل هذا الوعي إلى حركة، وهذه الحركة إلى تراكم،
تبدأ الديمقراطية بالانغراس لا كشعار، بل كممارسة متجذّرة في الحياة اليومية.
9- الخاتمة: من الحلم إلى الإرادة
لقد تعلّمت، عبر تجربة طويلة، أن الديمقراطية ليست وهماً،
لكنها ليست سهلة أيضاً.
هي طريق طويل فيه انتكاسات، وخيبات، وموجات رجعية ،
لكنه الطريق الوحيد الذي يُنقذ الإنسان من أن يتحوّل إلى تابع، أو أداة، أو رقم في جموع الغضب.
ولهذا أكتب، لا كوصيّة، بل كدعوة:
أن ننزع عن الديمقراطية قداسة الغرباء، ونردّها إلى أصلها الإنساني.
أن نربّي أبناءنا على التفكير لا الطاعة، على الجرأة لا الامتثال.
أن نحمي المختلف بدل أن نُقصيه، ونصون حقه لا أن نفاوض عليه.
لا يولد الإنسان ديمقراطياً، لكنه يُربّى على ذلك.
والبداية تبدأ من حيث نظنّ أن لا شيء يمكن تغييره:
من سؤال صغير، من موقف شجاع، من كلمة تُقال في وقتها.
الديمقراطية ليست نهاية، بل بداية كل كل شيئ جميل.
هل نبدأ من هنا؟ انتهيت من هذه الورقة، لكن السؤال لم ينته. بل لعله بدأ الآن، معكم، بيننا، في كل بيت وشارع ومدرسة ومقهى.تحدثنا عن الديمقراطية كقيمة، لا كسلعة.
كحالة فكرية وثقافية، لا مجرد آلية حكم. سلكنا طريق ابن رشد في تحرير العقل،
وتأملنا بصيرة الكواكبي في تفكيك الاستبداد، واستعدنا من غرامشي دور المثقف العضوي في بناء الوعي من الداخل.
لكن السؤال الأهم الآن: هل نحن مستعدون لنبدأ من هنا؟ أن نرى في الديمقراطية مشروعاً تربوياً وثقافياً يومياً، لا لحظة سياسية موسمية؟ أن نتعامل مع حرية الآخر كاختبار حقيقي لمفهومنا عن الحرية؟ أن نعيد تشكيل علاقتنا بالدين، بالسلطة، بالجماعة، بالذات؟
كتبت هذه الورقة كدعوة مفتوحة لا ادعي فيها امتلاك الحقيقة، بل أرجو منها أن تفتح حواراً نحتاجه جميعاً، في زمن تختلط فيه الأصوات، وتبهت فيه المعايير.
شاركوني تأملاتكم، اعتراضاتكم، رؤاكم. لعل الكلمة تكون بذرة، ولعل الحوار يصنع بداية جديدة.
الديمقراطية لا تُفرض، بل تُبنى ومعا يمكن أن نبنيها، لا كترف، بل كضرورة وجود.