لم يستعبِدني أحد كأنا!
“المدارنت”..
منذ ستين عامًا، وأنا أخدم بجسدي، وألبي ما أستطيع من مطالبه.
كنت أعد أبي جاهلًا كلّما قال: البطن فراغ ما بتفرق إن عبأته ماء أو لحمًا.
حتى قرأت السعادة في التخلي.
لفتني برنامج “تلفزيوني” لبيع العقارات. يوضح البائع للمشتري فيه، أن في البيت نظام ستائر ذكي، وموسيقى تعمل بالمؤشرات المزاجية للساكن، والأبواب والنوافذ وحنفيات المياه تفتح تلقائيا تبعًا للحركة.
جلست أتخيّل الجهد المطلوب منّي كبشر لامتلاك هكذا بيت! ثم تخيّلت الجهد المطلوب لتأمين الصيانة والحفاظ على استمرارية العمل لأنظمته.
كنت كلما مررت بجانب المركز المالي في الرياض، خاصّة أثناء توقف العمل فيه لفترة؛ أتساءل: هل سيتم إشغال كافة مكاتبه، وشققه ومبانيه؟!
هل سيكون منتجًا بالقدر الكافي لخدمته واستمراره، ورد تكاليف بنائه؟!
عرفت بعد مدة أن تكلفة تشغيله السنوية قرابة مليار دولار!
تدفعنا طرق البحث عن المجد والسعادة إلى غابات هائلة من الوهم.
نحاول فيها كميات ضخمة من الصيد والامتلاك والتخزين وبذل الجهد في استعبادنا من قبل أنفسنا…
كنت قد قرأت في مذكرات أيسوب: أن دودة تسلقت يقطينه، ثم تسللت إلى داخلها عبر ثقب ضيق في جدارها. سرّت الدودة كثيرًا لوفرة الطعام داخل اليقطين. أقامت فيها تأكل حتى باتت داخلها بحجم اليقطينة، فعجزت عن الخروج منها. بقيت تنتظر حتى عادت ضعيفة كما دخلتها.
عام 1997، رافقت أبي إلى الحجّ في مكّة. كنت عائدًا مساء من الحرم المكّي، فقابلني مجزل. قدم لي قارورتيّ ماء، وعلبتين صغيرتين في كل منهما كعكة خبز محشية بالتمر, بعد أن سألني من معك؟!.
عندما دخلت مركز إقامة حجيج الحملة التي كان فيها أبي، سألني حاج، بدا طماعًا عن مصدر الماء والكعكتين. أخبرته أن سيارة في الخارج تعطي الناس. خرج وعاد منها بأكثر من عشرين علبة، ثم كرّر ذلك مرتين.
سأله أحد أفراد الحملة: ما حاجتك إلى كل هذا؟ فأخبره بأنه سيأخذها معه إلى لبنان.
خرجنا في المساء التالي للمبيت في منى، لنغادر منها إلى عرفة، وسيستغرقنا ذلك يومين وليلتين حتى نعود إلى السكن.
كان الطقس حارًا. حين عدنا إلى السكن، وجدنا نمل الذرّ قد غطى علب التمر كاملة، بشكل مخيف. فاضطررنا جميعنا إلى إخراجها ورميها في حاوية النفايات.
قد يكون الحرمان قاسيًا، لكنه يحمل فيه الكثير من الحرية، والتخفف ونِعَم الاستغناء.
وقد يكون الامتلاك بوفرة مشبعًا بالمتع واللذات والشعور بالقوة والسيطرة، لكنه ثقيل مليء بالمخاوف، والقلق من النقص والحاجة.
وقد يحمل الحديث: المؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، في طياته أن الامتلاك بكثرة من أشكال القوة. لكنه وبرأيي من أوهن أشكال القوة.
فقد علّمتني الحياة أن القوة الحقيقية، والقوة القوة في التخلّي والترك، والتعفّف عن حاجات الجسد التي أراها نارًا خالدة، كلما أوقدتها. قالت: هل من مزيد. نارًا لا يطفئها إلى التخلّي.
فأعظم الحريات تلك التي بدأت بلا.. وتحديدً لا حاجة لي.