ماذا ينتظر سوريا بعد لبنان وغزة؟!
“المدارنت”..
أزالت “إسرائيل”، خلال الأيام الماضية ألغامًا أرضية وأقامت حواجز جديدة على الحدود بين هضبة الجولان والشريط المنزوع السلاح على الحدود مع سوريا، بحسب ما كشفته مصادر أمنية، وأوردته وكالة رويترز بقولها إن قوات إسرائيلية أزالت هذه الألغام وأقامت حواجز جديدة، في إشارة إلى أنها ربما توسع عملياتها البرية ضد حزب الله بينما تعزز دفاعاتها، وهي خطوة تهدف للمرة الأولى إلى إصابة أهداف لحزب الله من مسافة أبعد نحو الشرق على الحدود اللبنانية، بينما تنشئ منطقة آمنة تمكنها من القيام بحرية بعمليات مراقبة عسكرية لتحركات الجماعة المسلحة ومنع التسلل.
تفويض أميركي
هذا التحرك الإسرائيلي في سوريا لم يجابَه بأي رد فعل من قبل النظام السوري، ولا من قبل روسيا أو قواته الموجودة جنوب سوريا. وهي خطوة إسرائيلية لها أبعادها الاستراتيجية للمستقبل، وبموافقة النظام على ما يبدو من خلال سياق الحرب الدامية التي تتدرج بها تل أبيب على لبنان بعد غزة، وهو ما قد يؤدي للقيام بعمل عسكري وشن غارات من الجولان المحتل، وربما من المنطقة المنزوعة السلاح التي تفصلها عن الأراضي السورية، وإلى توسيع الصراع بين إسرائيل من ناحية، وحزب الله وحركة حماس من ناحية أخرى، إذا ما اقتربت إيران من الانخراط في الصراع وقد تستدرج الولايات المتحدة إليه.
لهذا زادت تل أبيب من ضرباتها على سوريا، ومنها العاصمة دمشق والحدود مع لبنان، وازدادت عمليات إزالة الألغام مع بدء إسرائيل توغلها البري في أول الشهر الجاري لمحاربة حزب الله على امتداد المنطقة الجبلية، التي تفصل شمال إسرائيل عن جنوب لبنان على بعد نحو 20 كيلومترًا إلى الغرب.
كما انسحبت وحدات عسكرية روسية كانت متمركزة جنوب سوريا لدعم القوات السورية هناك من أحد مواقع المراقبة، الذي يطل على المنطقة المنزوعة السلاح. كما كشفت مصادر صحفية سورية ولبنانية أن القوات الروسية غادرت موقع تل الحارة، وهو أعلى نقطة في محافظة درعا جنوبي سوريا، كنقطة مراقبة استراتيجية، وأن الروس غادروا في ظل تفاهمات مع الإسرائيليين لمنع الصدام.
صفقات وتحذيرات من تحت الطاولة
هذه المعلومات الواردة من الجولان السوري المحتل، وتطوراته من الجانب الإسرائيلي، تشي بأن هناك شيئًا ما يتحضر من تحت الطاولة، ومن فوقها بالقوة النارية كما في لبنان، ليستفيد نتنياهو من كل فرصة زمنية متاحة له، وبالتفويض الأميركي باستكمال حربه الإبادية وضعف في الإدارة الديمقراطية الحالية. وهو ما أثار حفيظة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتلمس منذ فترة زمنية بعيدة أهداف تل أبيب التوسعية في المنطقة، لتطول كامل سوريا وتكون على مقربة من حدود تركيا بعد فلسطين ولبنان، من دون موقف واحد لرأس النظام بشار الأسد، حيال كل ما يجري في المنطقة ومن تحولات خطيرة حاصلة فيها.
من هنا تبدو مواقف موسكو وتحركاتها الميدانية الأخيرة مريبة، وكأنها جزء من الصفقة والمقايضات المحتملة، تكون طهران الخاسر الأول فيها على الأراضي السورية بعد لبنان وغزة، فيما قُدمت وعود مستقبلية لنظام دمشق، وهو مقتنع فيها على ما يبدو، بتغيير مواقفه وسياسته حيال كل محور الممانعة، ليبقى على الحياد في المواجهة الإيرانية الإسرائيلية فوق الأراضي السورية، لا سيما أن الرد أو أسلوب الرد الإسرائيلي الأميركي على إيران، ولعبة الردود المتبادلة، هي ما ينتظره النظام في دمشق، ليقرر ما سيفعله في التعامل مع حالة إقليمية جديدة تغيرت فيها أساليب الحرب وأسبابها وأدواتها ونطاقاتها الجغرافية، ومعها انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، والتعويل على عودة ترامب للبيت الأبيض للخلاص من مشروع نتنياهو وخططه التوسعية في المنطقة.
واضح أن كل التحذيرات الغربية (إسرائيليًا وأميركيًا)، حول ما ينتظر سوريا عند حدوث عملية عسكرية برية واسعة ضدها، هو ما سيؤدي إلى تمزيق الخريطة السورية بالكامل، وهي تحذيرات مشفرة قد فهمها بشار الأسد بأن خياراته محدودة، ورهانه الدائم على طهران لن ينفعه رغم أنه تحالف استراتيجي تاريخي معها، لكن صمت دمشق يؤشر بكل تأكيد إلى أن هذه التهديدات كان لها مفعولها وأثرها، فهو محكوم بين خيارين، إما الابتعاد عن الاستهداف الإسرائيلي الشخصي له، وترك إيران وحدها في المعركة الدائرة فوق الأراضي السورية، أو بقاؤه تحت دائرة الخطر التي لن ينجح في الخروج منها.
والمعلومات التي ترشح عن مصادر دبلوماسية غربية تقول، إن نتنياهو لن يكتفي بحربه الهمجية على لبنان بعد أن انتهى من غزة، بل هو يريد استكمالها إلى الداخل السوري، لتصفية مواقع حزب الله العسكرية، ومعها الفصائل الإيرانية والخبراء العسكريون الموجودون في الداخل السوري، بعد أن يفسح الروسي المجال بريًا على الأرض، وبمنع استخدام صواريخ الدفاعات الجوية، كون هذه الصواريخ لها حسابات دقيقة في العلاقة مع واشنطن وتبادل المصالح وتناغم الضغط العسكري بين الجانبين، وهو من الأساس لم يعترض على أي ضربة إسرائيلية تطول سوريا وأرضها وشعبها، وهذا ما أفزع النظام في دمشق، بعد التلويح الإسرائيلي باستهداف مباشر لقصر الرئاسة ورموز النظام السوري، واقتناعه بعدم جدوى الرهان على إيران وميليشياتها لتحميه بعد الضربات التي تلقتها في لبنان، مقابل ما قُدم له للخروج بأقل الخسائر والأضرار، بعد إعطاء تل أبيب وواشنطن ما تريدانه وترغبان به.
لا يمكن للنظام السوري بعد اليوم المناورة في ساحة صارت ضيقة جدًا، فهو بذلك لن ينال بلح الشام ولا عنب اليمن، وموسكو من خلال مواقفها السياسية والميدانية العسكرية الأخيرة، قد لا تعترض على صفقة يمكن أن تخدمها على جبهة أوكرانيا والقرم، ولن تتردد بقبول صفقات مع واشنطن في ملفات إقليمية متداخلة، يكون الملف السوري أولها، خصوصًا عند عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وطهران لن تصمد على أكثر من جبهة، خصوصًا عندما يبدأ الاعتراض الشعبي والسياسي يتزايد ويتسع في الداخل، والعواصم العربية لن تحارب أو تعمل على حماية رئيس النظام السوري بشار الأسد، لأنه خذلها على أكثر من صعيد وملف أمني وكبتاغوني.
وقد يعتبر البعض في سكوت رأس النظام شيئًا من الحكمة تتواءم وتتماشى مع العرب بالتزام الحياد، لأن أي خطأ في الحساب سيكون قاتلًا، لكن حتى هذا لن يعطيه الحماية في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي وبلوغ الصراع فيه إلى الذروة، ولم يعد في جعبته ما يكفي لتلبية الطلبات الأميركية والإسرائيلية، مثل إضعاف النفوذ الإيراني وإنهاء وجود الحزب في سوريا والمساعدة في ضبطه في لبنان وإعادة ضبط أمن الحدود، إذ تبدو ضرورات قيام نظام إقليمي جديد وتغيير اللعبة في الشرق الأوسط، هي التي تحتّم تغيير اللاعبين والخرائط.
نتنياهو المدعوم أميركيًا إلى أقصى الحدود، يصرّ على بعثرة الأوراق السياسية والأمنية والجغرافية، ليطيح بالتوازنات والمعادلات الإقليمية القائمة، فاقتراب إسرائيل أكثر نحو دمشق هدفه إخراج الإيراني وميليشياته من مناطق جنوب سوريا، وهدفه كذلك تهديد نظام الأسد بشكل مباشر، من أجل التحول إلى شريك إقليمي في الملف السوري، يحاور فيه الروسي والتركي ندًّا لرسم مسار هذا البلد مستقبلًا، وهذا ما يعطي تل أبيب المزيد من الفرص والمبررات للتصعيد العسكري الواسع في سوريا، ويترك الأسد للخيار العسكري الإسرائيلي تحت ذريعة إخراج إيران من سوريا.
الاستنزاف في الإقليم
أخيرًا، نتنياهو مستمر في لعبة الاستنزاف في الإقليم، بعد فشله في حسم أي معركة على الجبهات اللبنانية والسورية والفلسطينية، ليوفر لواشنطن فرصة الخروج من الانتخابات الرئاسية، وكشف هوية الرئيس الجديد، وريثما يتم رسم سياسة أميركا الجديدة في الإقليم، في مسار يعول ويرتكز على حشر بوتين في خيارات ضيقة، بعدم التفريط بسوريا بعد كل ما بنته، والسماح لواشنطن بأكل رأس النظام السوري، وإبعاد إيران وتقديم تنازلات ميدانية وسياسية لمصلحة تل أبيب.
فهذا ما لن تفعله موسكو إلا في إطار خطة تفاهمات أو سلة مقايضات مع واشنطن، ترضي اللاعبين الإقليميين الكبار، نحو الحل السياسي الذي يرضي كل أطراف الصراع في الملف السوري، ويكون مرتبطًا ببقية الملفات الإقليمية، على طريق التهدئة وخلق تفاهمات أوسع بين الطرفين. سيناريو من هذا النوع سيكون واقعيًا ومقبولًا مع الإدارة الأميركية الجديدة، لكن العقبة التي تقف في طريقه تتعلق بجمود الموقف على جبهة القرم وفي أوكرانيا، التي دفع فيها بوتين الغالي والنفيس حتى الآن، وهي باتت تشكل معضلة حقيقية، لا يمكن التراجع عما بدأه في شباط عام 2022.