ما ينشده السوريون مما يحدث!
“المدارنت”..
جاء في القرآن الكريم: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..” (الآية 216 من سورة البقرة) وتقول الحكمة: “ربّ ضارة نافعة”، وقبل الخوض في الحدث السوري/ التركي المؤسف خلال الأيام القليلة الماضية، لا بد من الإشارة إلى طبيعة العلاقة التركية السورية قبل العام 2011، وكيف غدت بعد الـ 2011.
كانت العلاقة “سمناً على عسل”، وعلى غير صعيد، وقد حاول الجانب التركي أن يتدخل، منذ بداية الحراك السوري، وأخذ تدخله شكل الوسيط الناصح، وتجنيب سورية المخاطر التي أخذت تبرز في بعض بلدان ما سمي آنذاك بـ “الربيع العربي” لكنَّ كثرة المتدخلين، رجَّحت طرفاً على آخر، ولعلَّ النظام أعطى أذنه للإيرانيين أكثر مما يجب، فقد اقتضت مصلحة بقائه على كرسيِّه، ومع المنتفعين منه ذلك.. وهكذا أشاح بوجهه عن الأتراك، والتفت إلى من يحمي تلك المصالح، وبقي الجانب التركي مع مطالب المحتجين السوريين عموماً ومع الأكثر بروزاً منهم في ذلك الوقت..
وهكذا فتحت أبواب تركيا أمام اللاجئين السوريين، وكان الدخول إليها بدون فيزا (بحسب اتفاق بين الدولتين)، واسْتُقْبِل السوريون بحفاوة بالغة، تجاوزت الحالة القانونية التي تنظم مبادئ اتفاقية “الحماية المؤقتة” إلى قاعدة عرفت في التاريخ الإسلامي بـ: “تآخي المهاجرين والأنصار”، وهكذا غاب القانون الضامن لحقوق اللاجئين، ليحل محله ما يمكن تسميته بالعُرْف “الأبوي” الذي هو فوق قانوني، وخاصة أنه مستتر بغطاء ديني! وكل ذلك جرى مستندًا إلى رؤية قصيرة الأمد، هي أن الوضع السوري برمته يتجه نحو حل قريب.. إذ كان الشعب السوري يحتل الشارع قبيل دخول عنصر السلاح، غير المتكافئ، مع جيش النظام، وحلفائه إلى الميدان.. وهكذا سارت الأمور باتجاه آخر تماماً.
وغدت الحلول بعيدة المنال! ومن هنا، كانت خطورة القانون الأبوي الذي يعود في عمقه إلى رضا الأب عن الأولاد.. يعني بإيجاز لم يتأكد للسوريين محتوى القانون الذي دخلوا بموجبه أراضي الدولة التركية! وهكذا مارسوا أعمالهم وأنشطتهم، كأنما هم في بلادهم، فنقلوا إليها معاملهم، وخبراتهم ورؤوس أموالهم، وكل مدخراتهم، وتعاملوا مع الشعب التركي استناداً إلى تاريخ طويل! وعلاقات لم تنقطع، وخاصة مع الجنوب التركي الذي يعج بالسكان السوريين، وكثير منهم ينتمون إلى عائلات منقسمة بين سوريا وتركيا، ويجد المراقب ذلك على امتداد الشريط الجنوبي من “مرسين” و”إسكندرونة”، إلى “ماردين” و”ديار بكر”، مروراً بـ “حوار كلس” و”الريحانية” و”غازي عينتاب” و”نزب” و”شانلي أورفة”.. إلخ.
وهكذا، ومع ازدياد أعداد السوريين بدأت تظهر في الشارع التركي، وأحياناً في مؤسساته حالات من التذمر، وجرى اتخاذ قرارات تضيِّق على السوريين منها ضرورة حصولهم على إذن السفر إن أرادوا التنقل بين مدينة وأخرى.. ومنها أيضاً، عدم تغيير سكن السوري من منطقة إلى أخرى في المدينة الواحدة.. وقيِّد إذن السفر بحالات خاصة جداً..
ولن نتحدث عن العنصرية التركية التي أخذت تبرز لدى بعض أحزاب المعارضة في تركيا، منذ عدة سنوات، وكتب عنها الكثير من مقالات وقصص.. وهذا أمر طبيعي، فهو وجع حقيقي! ولن أناقش وَضْعَ السوريين في موازين السياسية التركية حكومةً ومعارضةً، وبالتالي إيقاع الأذى بالسوريين مثلما تأذوا في وطنهم! لكني أود الإشارة إلى أن حلَّ المسألة السورية امتد زمناً طويلاً، ولم يكن متوقعاً، ما ضاعف مشكلات السوريين، وعمق في أزمتهم، وأختصر فأقول:
إن الحال السورية اعوجَّ مسارها منذ البدايات، ومنذ تدخلت فيها الدول، وأوكلت لقيادَتِها معارضة هجينة فرضتها حكومات له مصالحها، إذ كان أفضل من عبَّر عن الوضع السوري بكامله بصدق رئيس الوزراء القطري السابق حين قال عن الحراك الشبابي السوري: “صيدة.. وتهاوشنا عليها!”.
صحيح أنها عبارة سوقية، رخيصة، ومؤلمة للسوريين، لكن هكذا جرت الأحداث، وهكذا شُكِّلت قيادات الحراك السوري، ولتنطفئ قناديل الأمل في عيون السوريين، وتركد مياه جداولهم السائرة، في رؤاهم، نحو بحار من الحرية، تبنى في رحابها سورية جديدة.. سورية نامية، وشامخة بعز أبنائها.. ولأن الأحزان لا تموت بل تكمن، كما البذار، في الأرض التي تنتظر الوقت الملائم لتنمو وتزدهر..
وعود على بدء أقول يبدو أن شباب سوريا كانوا ينتظرون هذه الهزَّة، أعني الحدث “القيصري” أو كانوا بحاجة إليه، بعد أن طفح الكيل بهم وبمعاناتهم، فأتت ردة فعلهم قوية وشاملة، ومعوَّل عليها، وإن رافقها استفزاز ما.. بيد أنها جاءت في وقتها ومكانها المناسبين.. وأكثر ما تجلت في المظاهرات العامة في الشمال السوري، وفي الاجتماع الذي أعقبها في “حوار كلس” بين الجانبين السوري والتركي.
لن أستعرض المطالب التي تقدم بها شباب الشمال السوري من الجانب التركي، وكلها محقة، وقد نشرتها الكثير من المواقع الإعلامية، إذ هي في جوهرها لا تضع النقاط على الحروف بينهما، ولا ترسم الحدود فحسب بل إنها تجيء من موقف سوري أصيل أعلن عن نفسه بصوت حر قوي، وباستقلال تام افتقدته الثورة السورية على مدى 13 ثلاث عشرة سنة من عمرها، وعليه سوف يبنى الكثير فيما أعتقد، وخاصة إذا تعاطى مع المناطق الأخرى وخاصة في الجنوب السوري ليجري تكامل في الرؤية التي لا بد أن يكون أساسها وحدة البلاد السورية وضمان حقوق المواطنة الكاملة دونما أي تمييز مهما كانت أسبابه ودواعيه، بما في ذلك الحقوق السياسية في إطار الوحدة السورية، ونظام يتيح للفرد أن يرقى أعلى المراكز في الدولة، وفق دستور يقره الشعب، وكل الأمل أن يستمر هذا الحراك، وأن يدعمه السوريون ليكون نواة سورية جامعة مستقلة القرار..