متى سنقف وقفة العزّ والكرامة؟!
“المدارنت”..
مرة أخرى، سنضطر لتأجيل الحديث عن متطلبات الانتقال إلى الحداثة العربية الذاتية، بسبب كثرة الأحداث الكارثية المتعاقبة، التي يعيشها الوطن العربي يومياً، وبسبب شبه الغياب الكامل لإرادة وفعل مواجهتها.
وأصبح طرح الأسئلة عن غياب الإرادة أو اتخاذ القرار المطلوب، أو إبراز الأسباب والإشارة إلى الخيارات الممكنة لمواجهة تلك الكوارث يقابل بالاستهجان واللامبالاة المحّيرة.
لا تظهر تلك النواقص أكثر من ظهورها عند التعامل مع القضايا العربية والإسلامية من قبل مؤسسات الحكم والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية.
أكثر من سنة والكيان الصهيوني، يمارس أبشع صور الإبادة الجماعية تجاه شعب غزة، أطفالاً ونساءً وكهولاً وشباباً، وتجاه كل مبنى في أرض غزة، مدارس ومستشفيات ودور عبادة ومساكن شخصية، وكل ما نسمعه من أمريكا هو مناشدة الآلة الإجرامية الصهيونية أن تتجنب قدر المستطاع (نعم، فقط قدر المستطاع) قتل المدنيين في اليوم الأول، ثم تتبعه في الأيام التالية، بإرسال المال والرجال وأفتك أسلحة الدمار إلى سلطات ذلك الكيان، لكي يزداد جبروتاً وخروجاً على كل القوانين الدولية.
وفي هذه اللحظة، تفعل الأمر نفسه بالنسبة للإبادة والتدمير والاستباحة، لكل ما هو مدني في طول وعرض لبنان، مكرّرة العبارات نفسها ومقدّمة المساعدات نفسها لليد القاتلة.
وحتى عندما تقرر محكمة الجنايات الدولية بأن الكيان الصهيوني هو سلطة استعمارية محتلة، وأنه يرتكب الإبادة الجماعية، تنبري أمريكا بعمل كل ما تستطيع لمحاربة قضاة المحكمة العادلين، وتحاول أن تجعل قرارات المحكمة باطلة وغير شرعية، وذلك بكل الطرق الابتزازية والتهديدية والتلفيقات التي لا تنتهي.
ولا نحتاج أن نذكّر بكل ما فعلته طيلة ثمانين سنة بالشعب الفلسطيني، وكل مطالبه العادلة وطموحاته، وبكل ما فعلته بالعراق وسوريا وليبيا واليمن، من دمار لمجتمعات تلك البلدان وتجييش لكل أنواع الإرهاب الميليشياوي المجنون ضدّ حكومات تلك البلدان، ولا قائمة جرائمها في الكثير من بلاد المسلمين عبر القارات. فالقائمة طويلة ومفجعة وفاضحة للنوايا الاستعمارية التآمرية، ضد وحدة العرب ونهوضهم واستقلالهم القومي والوطني، وضدّ أي تعاون إسلامي.
بعد كل هذا التاريخ، وكل هذا الحاضر، مع أنظمة حكم متعاقبة لبلد لم يؤذه قط أحد من العرب، بل أحّبوا شعبه واحترموه، ألا يحق لشعوب أمة العرب وعالم الإسلام أن يطرحوا السؤال التالي، على أنظمة حكم لستّة وخمسين بلداً عربياً وإسلامياً: ألم تقتنعوا بعد بأن العلاقة مع كل مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة، وعلى الأخص مؤسسات الحكم والتشريع والاستخبارات والأمن العسكري، تحتاج إلى وقفة مراجعة عميقة من قبل دول الكتلتين العربية والإسلامية، لإجراء تغيير جذري بالنسبة لكل العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية والإعلامية والثقافية؟
ألا نحتاج إلى وقفة كرامة وعزّة نفس، ورفض للخضوع لهذه الدولة العميقة، ومن يساندها من دول عميقة في بلدان من مثل إنكلترا وألمانيا وفرنسا وغيرها من دول العالم الخاضعة للإملاءات الأمريكية؟
بل دعنا نطرح سؤالاً أيسر: ألا تستحق الأفعال الأمريكية المضرة بصور متباينة بكل قطر عربي من دون استثناء، أن تكون مجموعة فكرية بحثية موضوعية وصريحة وشجاعة من المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين لتدرس الموضوع وتقدم تقريرها لاجتماعات قمم عربية ـ إسلامية مشتركة، ليقرّروا إخراج وطن العرب وعالم الإسلام من الجحيم، الذي تصرّ الدولة العميقة الأمريكية على إبقائنا فيه، وعيش أهواله ومآسيه؟
بل دعنا نطرح سؤالاً أسهل وأيسر من السؤال السابق: هل من المعقول ألا نسمع حتى الآن عن طلب من قبل دولة عربية أو إسلامية واحدة لمنظمة التعاون الإسلامي، أو الجامعة العربية تطلب فيه الدعوة لمؤتمر قمة للستّ والخمسين دولة للنظر وللتداول في الحالة التي وصلت إليها أحوال العرب والمسلمين؟
ألا يوجد قائد واحد شجاع يقدم مثل هذا الطلب، حتى لو قوبل بالرفض، على الأقل من أجل إرضاء ضميره وربّه وشعبه؟
نحن نعلم أن الأحلام الكبرى، شبه المستحيلة، مثلما فعل غاندي أو مانديلا أو مارتن لوثر كنغ أو عبد الناصر، لم يعد لها مكان عندنا منذ عدة عقود من التراجعات والانتكاسات، لكن ألا يحق لنا أن نرى ونتحسّس محاولة واحدة لتسلّق الجبال أو مغالبة الأمواج، أو تتبّع ما يوحي به ألق أنوار السماء الزاهية للتفتيش عن الأحلام الكبرى التي تستحّقها أجيال المستقبل والتي بها نواجه صلف وغطرسة الدولة العميقة الأمريكية وحلفائها من الصهاينة والاستعماريين؟
نحتاج في هذه اللحظة أن نتذكر ما قاله شكسبير من أن الجبناء يموتون المرة تلو المّرة وهو ما ينطبق علينا، إذ أننا مع الأسف نتجرّع الآن مثل تلك النوبات المتكرّرة من الموت على يد أمريكا بينما لا نبدي لمجابتها أية وقفة عزّ وكرامة.