أنت الغريب ابداً.. محطة رقم “7”
خاص “المدارنت”..
.. ويأخذك المكان شيئاً فشيئاً، وتعتاد أذنك وإن بعد جهدٍ على أسئلة الناس، فأنت… لم تعد تنظر في العيون فقط. تعتاد على مرِّ الحقيقة، أنك الغريب أبداً.
الغريب! يُسْأل ويُسْأل حتى التخمة، يُسْأل من خوفٍ، يُسْأل لإشباع فضول اهل المكان، واحياناً لمعرفة هل هو، هل فيه إنسان مماثل؟!
الغريب! يُسْأل دائماً.
ساعات العمل ورتابة الأيام، طعامك الجديد وتفاصيل كل يوم، رفاق السفر تباعدوا، مثلك، سرقتهم دهاليز الغربة. كلها أسباب تدفعك الى البحث عن صديقٍ، عن أخٍ لم تلده أمك.
فأنت… حين تنتابك حمّى الحنين اليومي للوطن، تعودُك صورةُ أصدقاءٍ، كنتَ قد غادرتهم او ربما تخلّفت عنهم، والأصحّ إنك تخليت عنهم عندما أحكمت ترتيب أغراضك، فقط أغراضك في حقيبة سفرك… وغادرت.
… هي التي لم تعرف تجربة السفر والمغامرة، على الرغم من تخطيها العقد الثالث من عمرها، موعد وصولنا إلى تلك الضاحية لمدينة كومو.
تخرجت كطبيبة نسائية في ميلانو، المدينة التي كانت أبعد مكان وصلت إليه، على ىالرغم من مساحة ايطاليا الكبيرة، وكل ما فيها من إبداعٍ وجمالٍ تاريخيين.
كغالبية اهل المكان، كانت ترى في تلك الأجساد المتعبة والوجوه التائهة، أسفارَ الف ليلةٍ وليلة. بسماتها الطفولية، كانت وكأنها تنتظر أن يتجرأ أحدنا، فيخرج بساط الريح من جعبة سفره، أو فانوس علاء الدين، فتستحضر جنيَّه الأزرق ليروي لها قصصنا.
وكنا نرى فيها، وفي وجوه مَنْ سارع الى نجدة بؤساء ذاك الخريف، أُنْساً يخفف من ذعر وقلق القطط في مكانها الجديد.
من شفقةٍ الى إشباعِ فضولٍ، وبعد الحد الأدنى من القدرة على مضغ اللغة، وإيصال الفكرة من دون دمعة، كان لتبادل الأفكار والهموم اثراً كبيراً في صقل العلاقة، فتحوّلت مع تعاقب السنين الى صداقة قائمة حتى اليوم.
فمرة أخرى، كان للانثى دورها الكبير، في إعطاء حجما ًوشكلاً آخراً للوطن، وطن التبني، والأحرى الموطن الجديد.
… لمن تلجأ؟ إلا لصديقٍ يأخذ بيدك، وانت تغرق بين أمواج الأسئلة والمفردات الجديدة، أيها القادم من بعيد.
فأنت كنت تعرف صنفاً واحداً للهجرة، هجرة الداخل في وطنك، وطن الجميع واللاأحد. هجرة أبناء الشمال والجنوب والبقاع، الذين كانوا يصطفّون على أبواب المدن، بين صررهم المليئة بالبؤس وأحلام الفلاحين.
أما هنا… فللهجرة ألفَ لونٍ وصفة. عبارات تترك وشم السياط في جلدك.
فأنت… افريقي… آسيوي… مشرقي… شمال إفريقي… جنوب أميركي… عربي… مغربي…. متشرّد… من دون أوراق ثبوتية… من خارج دول الإتحاد “الأوروبي”… غريب… ذو لون آخر… مروج لأعمال السوء…
دخيل… طامع… أنت كل هذا، فأنت المهاجر الذي لا يحسن التأقلم. شعارات الانسجام، التأقلم، والاندماج في المجتمع نسبةً لأهله وكما يرونها، ستبقى حواجزاً لا تقهر في سنينك الأولى كمهاجر.
تحاول أن تغيّر في نوع طعامك، ملبسك، وقليلاً من عاداتك، فهل سيتغير لون بشرتك؟… تحاول ان تقلّد اهل المكان في أبسط حركاتهم، وقد تحفظ نكاتهم عن ظهر قلب، قد تقرأ كتبهم وتغني أغانيهم واشعارهم …
تحاول، وتحاول، فيناديك أحدهم بإسمك الثلاثي، فينفضح فيك الممثل الفاشل، وأنت تحاول!
إحساسك، بأن ما فيك من مناعة ضدّ بعض العبارات في وطن الماضي، وطن التناحر الأبدي، ضد الفروقات الاجتماعية الهائلة، مقارنة بحجم وطنك الصغير، سيكون اقل من جرعة من بئر مشاعرك، ومفردات عالمك الجديد.
الانسجام والتأقلم والتفاعل الإيجابي مع مجتمعك الجديد عند بعضهم، هو ان تنزع جلدك، فلون بشرتك لن يكون يوماً من صلب صورة المكان. عاداتك وتقاليدك، ومدّ يدك في السلام، لا تناسب المكان.
هي، لم تغير شيئا فيها، مراعاة لمشاعرنا، ولم ترغب يوماً ان نغيّر ما فينا، لنكون أحجاراً جميلة مزيفة، فالأحجار المزيفة أول ما يسقط من لوحة فسيفساء.
وجدنا فيها، ووجدت فينا الإنسان فقط، وكانت الصديقة. في لحظات اليأس كانت عوناً، وقريبة كانت حتى في أيام العوز المادي، معنا كانت وبيننا في ساعات الفرح، فقد حملت ابنتي البكر وداعبتها وهي بنت الساعتين، ودندنت للثانية أغاني النوم، وكان لابنتي الثالثة “كيارا” إسمها عرفاناً للجميل، فالصداقة شجرة زيتون تكبر ببطء، أغصانها سلاماً، في جذعها تُحْفرُ قصصنا، وزيتها يعمّدنا…