“المدارنت”..
اخترت مدخلاً إلى مقالتي هذه، واقعة لها دلالات ومعانٍ لا تغيب عن تشخيص تدني العلاقات بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما وصفه خبراء أمريكيون بـ«محنة الديمقراطية في أمريكا»، ووصولها إلى أزمة مجتمعية تهدد مستقبل البلاد ووضعها داخلياً وخارجياً.
الواقعة التي أقصدها كنت شاهداً عليها في سنوات عملي مراسلاً صحافياً في الولايات المتحدة، عندما استقال وزير الدفاع حينها ويليام بيري من إدارة الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون، حيث اختار كلينتون بدلاً منه سياسياً ينتمي إلى الحزب الجهوري المنافس، وهو السيناتور ويليام كوهن، عضو مجلس الشيوخ، متجاوزاً الخلافات والصراعات التقليدية بين الحزبين.
تلك الواقعة تدفع بنظرنا إلى مبدأ حاكم أو عقيدة سياسية سبق أن عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية لعشرات السنين، عرفت باسم Cosensus أو الوفاق، وتعنى اتفاقاً جماعياً في الرأي.
وقتها اعتبره كثير من الخبراء السياسيين سنداً أساسياً للديموقراطية، وللعلاقات بين القوى السياسية المختلفة، حتى مع اختلاف انتماءاتها الحزبية، في المجال الداخلي كان من لم يتحقق له الفوز في انتخابات الرئاسة، فإنه يوافق تلقائياً على أحقية من تحقق له الفوز.
وفي مجال السياسة الخارجية، فقد اعتبر أن هذا التوافق هو الضمان والسند للرئيس الفائز، لنجاح سياسته الخارجية، طالما أنه قد ضمن مساندة الحزبين لسياسته، وهو الوضع الذي انزلقت إليه العلاقة التنافسية بين الحزبين، من في الحكم ومن في المعارضة، ووصول التنافس الحزبي إلى مستوى من الانقسامات تهدد الديمقراطية ذاتها في الولايات المتحدة.
لقد سبق أثناء حكم الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور في سنوات الخمسينات، أن كانت الأحزاب السياسية أكثر توافقاً مع بعضها، بعكس ما هي عليه الحال اليوم، حتى مع وجود أجنحة محافظة وليبرالية في كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وقتئذ كان أيزنهاور قد كثف من تقاربه مع الحزب الآخر الديمقراطي، من منطلق عقيدته بأنه رئيس لدولة تحتوي الحزبين، والمحمل بقضاياهما معاً، ثم إن ايزنهاور وإن كان يمثل الحزب الجمهوري، إلا أنه نال تأييداً واسعاً من عموم الأمريكيين، بصرف النظر عن انتمائه لحزب بعينـه.
لكن المشهد السياسي الأمريكي على هذه الصورة قد لحقت به تغييرات كبيرة منذ الثمانينات من تكثيف التعبئة للانتماء أولاً إلى الحزب، إضافة إلى صعود تيارات اليمين المحافظ، وتكثيفها لغريزة الكراهية السياسية للحزب الآخر، وظهور الدور المؤثر للتلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت معاً في تفاقم الانقسامات بين الأحزاب، وهو ما وصفه عدد من المحللين ببدايات الانجراف إلى السياسات القبائلية، وليس الوطنية.
في هذه الأجواء المتغيرة، جاء ترامب منتمياً إلى اتجاهات التغيير ومضاعفة العداوات في التنافس الحزبي، واستغلاله لما كان قد طرأ على هذه العلاقة من متغيرات تباعد ولا تقرب بين الأحزاب.
في هذا تقول الكاتبة كلير جيري، المتخصصة في التاريخ الأمريكي، إننا في الفترة الحالية نرى أن الرئيس أو منافسه يتصرف كأنه يخوض معركة قتالية وسط انقسامات حادة نابعة من سطوة غريزة الانتماء الحزبي.
وتقول إننا كنا منذ عقود نختلف حول حجم الحكومة، وما نريده منها، إلا أننا في النهاية نجد حلاً وسطاً لاختلافاتنا بعكس الحال اليوم.
نفس التشخيص للوضع الحزبي أكدته البروفسورة ليليانا ميسون، أستاذة العلوم السياسية بجامعة جون هوبكنز، التي تقول إن ما نراه اليوم هو انقسامات حادة تملكت مشاعرنا تجاه بعضنا بعضاً، وانعدام تام للثقة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإن حدة الانقسامات يمكن أن تقودنا إلى تصاعد العنف السياسي في المجتمع.
ووصل الحال ببعض علماء الاجتماع إلى القول إن هذا الاستقطاب يمكن أن يضع أمريكا على حافة حرب أهلية، بصورة تقترب مما جرى في الفترة التي تلت هزيمة الرئيس السابق دونالد ترامب في انتخابات عام 2020، واللجوء إلى العنف ضد الدولة ذاتها.
وطبقاً لتقرير بثته شبكة «PBS نيوز»، فإن السياسات التحريضية صارت انعكاساً للهوية الشخصية للقادة وليس للمجتمع، وإن هذه الانقسامات تجاوزت حدود الاختلافات حول السياسات ووصلت إلى حد الشجار حول هوية الدولة ذاتها، ومعتقداتها الثقافية، وعلاقاتها الدولية.
هذا ما سجلته دراسة عنوانها «أمريكا في مفترق طرق» للكاتبة كلير جيري، المتخصصة في التاريخ الأمريكي، التي تشير إلى ذلك بالقول: إن كل رئيس أصبح يدير معركة قتالية تعبر عن انقسامات مدفوعة بالانتماء الحزبي، تركت آثاراً سلبية في مشاعرنا تجاه بعضنا بعضاً، ووسعت من انعدام الثقة بين الجمهوريين والديمقراطيين، حول خلافات لا يمكن إيجاد حل وسط لها.
وقبل حدوث هذه التحولات الجذرية في الأداء السياسي لمن يتصدون لقيادة الأحزاب، فقد كانت هناك قاعدة أخلاقية يستند إليها موقف كل المرشحين المتنافسين في انتخابات الرئاسة، مضمونها أن المرشح للرئاسة الذي نال التأييد الأكثر، إنما هو اختيار من الشعب الأمريكي نفسه بصرف النظر عن أي اتجاه سياسي يمثله، وهو ما كان، في زمن مضى، يؤدى إلى وقوف الحزبين معاً، لمساندة إرادة الشعب الذي اختار من يمثله.
وقتها ساد الاعتقاد بأن الوفاق ضرورة للديمقراطية ذاتها، أما الآن فقد حدث من بعد عام 2007 أن أصبح الوفاق عند النشطاء الحزبيّين كلمة سيّئة، وعملة رديئة.
مقالات