مدينة تكرر نفسها!
“المدارنت”..
عمر الزعنّي، اكتشف أن في زمنه، أيّ في بداية القرن الماضي، بدأ التمييز يتلاشى بين ثلاثة عناصر: الشعر الشعبي، والحكاية الشعبية، والعلاقة بين الراوي والنص.
وكان الزعنّي، قد التقط الثورة الكامنة في الإذاعة، فتوقف عن رواية الحكايات وانتقل إلى مزيج من رواية الحكاية والشعر.
وفي ذلك الزمن أيضاً، لم يكن التمييز بين الشعر الشعبي والحكاية الشعبية ممكناً، ولا بينهما وبين المدينة.
المدينة كانت هي الوعاء، لذلك نكتشف أن الأسئلة حول علاقة المدينة بالشعر كانت غائبة، إذ لا يمكن أن نتخيل مدينة شرقية من دون مقاهي الشعراء الذين كانوا يروون الحكايات والقصص للجمهور.
ولقد بلغت درجة التماهي بين جمهور المقهى والشاعر حداً لا يوصف.
وأفضل مثال على ذلك هو الحكاية التي يتناقلها أهل بيروت عن الحكواتي الذي كان يروي قصة عنترة:
انتهت رواية القصة بدخول عنترة إلى السجن، وضرب الحكواتي موعداً لمتابعة الحكاية في اليوم التالي. وفي منتصف الليل يفاجأ الحكواتي بقرع عنيف على الباب، فنهض مذعوراً وهو مليء بالهواجس ليجد أمامه أحد زبائن المقهى وهو يرجوه أن يطلق عنترة من السجن. مدّ الرجل يده إلى جيبه وأخرج منه مجيديّة كاملة ووضعها على الطاولة، وقال: “هذا ثمن الإفراج عن عنترة”.
ضحك الحكواتي طويلاً وهو يروي لزبائنه ماذا جرى، متوقفاً عند الحوار الذي دار بينه وبين الرجل.
قال الحكواتي: “اصبر قليلاً يا صاحبي، فعنترة سيخرج من السجن على كل حال. غداً في المقهى سنحتفل بخروج عنترة من السجن، فلا لزوم لهذا القلق والتوتر”.
فأجاب الرجل: “أنا أعرف ذلك. لكنني عاجز عن النوم. أرجوك، أخرجه لأذهب للنوم. وغداً نخرجه مرة أخرى في المقهى!”.
انتهت الحكاية.
لكن هذه الحكاية تحمل دلالات كبرى.
الدلالة الأولى هي التماهي بين الحكاية والمستمعين. فهذا الرجل كان على يقين من خروج عنترة في اليوم التالي، لكن تماهيه مع الشاعر الفارس منعه من النوم.
هذا ليس سذاجة كما نتوهّم، بل هو تماه مطلق وانتظار داخلي في شخصية المستمع أمام الحكاية.
الدلالة الثانية هي علاقة الإنسان باللغة، فهذا المستمع سقط أسير لغة الحكاية إلى درجة أنه لم يعد قادراً على التحرر منها.
الدلالة الثالثة هي الدمج المطلق بين المقهى والحكاية والمدينة والمستمعين.
كانت هذه العلاقة جزءاً تكوينياً من ثقافتنا الشعبية. وعندما بدأت هذه الثقافة بالتدهور بدأنا نلحظ الانشقاقات والتمايزات بين هذه العناصر الأربعة.
لا تقولوا لي إن الشعر المملوكي الفصيح كان أكثر بلاغة من الشعر الشعبي الذي أتت به الحكاية أو أدب الحكاية كما طوره عمر الزعنّي.
عندما كنا صغاراً كنا كيفما مشينا نصطدم بكلمات عمر الزعنّي، ولم نكن نفهم السبب. كان شعره أشبه بقوت يومي يتناقله أهل بيروت، واعتبرنا هذا جزءاً من طفولتنا، ثم نسينا الموضوع في زحمة الحروب والحروب الأهلية.
وفجأة عاد الرجل ليكون أحد أكبر نقاد الحرب الأهلية، واليوم عدنا نفهمه ونفهم مقاصده ورؤيته.
فالرجل كان رائياً ككل الشعراء الذي رأوا المستقبل وكتبوا على ضوئه. كأنه كان يرى الحرب الأهلية ومآسيها بعينيه. وكأنه عاش معنا تلك الأيام العصيبة.
اقرأوا ما كتبه الشاعر عن بيروت:
يا ضيعانك يا بيروت
يا مناظر عالشاشة
يا عروس بخشخاشة
يا مصمودي بالتابوت
يا ضيعانك يا بيروت
الجهال حاكمين
والأرذال عايمين
والأنذال عايشين
والأوادم عما تموت
يا ضيعانك يا بيروت.
كُتب هذا الشعر عام 1932 أي منذ قرابة التسعين عاماً. شعر يحيا ويُحيي شاشات بيروت بالحيوية والأسئلة والغضب والذكاء. اليوم نبحث عنه في كل مكان فلا نجده.
حتى الوارثون المفترضون للشاعر بدوا مقلّدين وباهتين.
المشكلة أن الشاشة التي رسمها عمر الزعنّي تبقعت بالغباء والتكرار، كأن الأشياء تتكرر أو تكرر نفسها. لست أدري!