مقالات

مدّ وجزْر في صالات “تحرير الإعلام العالمي”!


“المدارنت”..

في غرف تحرير الإعلام الغربي، قصّةٌ لم تخرج بعد إلى العلن عن النقاشات بشأن تغطية حرب الإبادة (الإرهابية الصهيونية) في غزّة، والصراع المحتمل بين الاتجاه العام لـ“تنقية” هذه التغطية، باعتبارها نزاعاً عادياً بين دولة ديموقراطية وعصابة، وبين الأصوات القليلة التي تعترض على هذه السردية. الأصوات القليلة التي خرجت من هذه المؤسّسات، لتفضح محاولات الإدارات قمع أيَّ سردية تخرج عن الإطار العام، لا تُؤشّر إلى وجود حراك داخل غرف تحرير هذه المؤسّسات، لكنّها تطرح السؤال بشأن كيفية تغطية هذه المؤسّسات للنزاعات الدولية الخارجة عن “المألوف”، ومبدأ التوازن في التغطية، الذي تدّعي هذه الوسائل أنّه يحكم تغطيتها للنزاعات، التي تثير انقساماً في الرأي العام.
خرجت أخيراً تجربة الصحافية مولي شومان في “شبكة سي بي سي”، الكندية العمومية، لتكشف بعض ما يجري داخل المؤسّسات من معاقبة الأصوات المُعترضة على الخطّ التحريري المُؤيّد ضمناً للرواية “الإسرائيلية” (الإرهابية الصهيونية) للحرب (دولة ديموقراطية تمارس حقّها في الدفاع عن النفس)، ولو أنّ شعار الحياد هو المعيار نظرياً. تروي مولي أنّها اعتقدت أنّ يهوديتها ستتيح لها مجالاً أوسع لمعارضة السياسة التحريرية بشأن غزّة، من دون أن تواجه تبعات كبيرة.
خلفية الصحافية الدينية والاجتماعية، لم تحلْ دون اتهامها بمعاداة الساميّة إلى حدّ اعتبار دفاعها عن تمثيل الجانب الفلسطيني في الرواية ضرباً من الأزمات النفسية.
حاولت الصحافية/ المنتجة، بعد 7 أكتوبر (2023) ومع تزايد أعداد القتلى المدنيين في غزّة، أن تفسح مجالاً في الحوارات لوجهة النظر الفلسطينية منها، بأن تستضيف طبيباً كندياً فلسطينياً، قال إنّ أفراد عائلته احتموا بكنيسة في غزّة، وإنّ أحدهم قتل في غارة “إسرائيلية” استهدفت المبنى. كان ردّ المسؤول التحريري أنّها تستطيع أن تستضيف الطبيب الفلسطيني إلا أنّ عليها أن تقول إنّ روايته لم يتمّ التحقق منها، خلافاً لعشرات الروايات التي حفلت بمعلومات مغلوطة وأنواع الدعاية من ضيوف “إسرائيليين”، ومررّت من دون مساءلة.
كان اقتراح الصحافية استضافة خبيريْن في تاريخ الإبادة من وجهتي نظر مختلفتيْن مبرراً لاجتماعات استدعيت إليها للمثول أمام كبار مسؤولي المحطّة لتحذيرها ممّا اعتبروه تهوّراً خطيراً منها. انتهى الأمر إلى الطلب منها الاعتراف بأنّها كانت “متحمّسة” لقضية غزّة، ما قد يعرّضها للتحيّز وتجاوز الخطّ المقبول تحريرياً، والاقتراح عليها أن تأخذ إجازة لأسباب نفسية.
تروي الصحافية تفاصيل تجربة من الصعب تخيّل أنّها قد تحدث في صالات تحرير إعلام غربي، منها أن يقوم فريق الإنتاج بـ “تنظيف” إفادات الضيوف الفلسطينيين لحذف تعبيرات مثل “إبادة” أو “معاناة”، أو غيرها من تعبيرات “مُحرِجَة” لبعض أفراد فريق العمل، إضافة إلى لائحة سوداء غير رسمية لضيوف غير مرغوب فيهم على الشاشة، من أصحاب المواقف التي اعتبرت راديكالية في الدفاع عن الجانب الفلسطيني، الذين اختفت عناوينهم من سجلات المحطّة بقدرة قادر.
تتحدّث الصحافية عن تعليقات معادية للفلسطينيين تلفّظ بها زملاء لها في قاعات التحرير، وهي حالات اعتبرت الإدارة أنّها لا تعبّر بالضرورة عن معاداة للفلسطينيين أو للمسلمين، خصوصاً أنّ العاملين في المحطّة من هذه الأصول لم يعترضوا عليها. الرواية نفسها خرجت من قاعات تحرير “سي أن أن”، فقال ستّة صحافيين وعاملين في الشبكة الأميركية، واسعة الانتشار، إنّ تغطية الحرب يحكمها انحياز للرواية “الإسرائيلية” تحت ضغط الإدارة العليا للشبكة، لدرجة أنّ أحد هؤلاء قال لصحيفة الغارديان البريطانية إنّ “تغطية المحطّة للحرب بين “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) وغزّة، تعتبر بمثابة خطأ مهني في الصحافة”.
بحسب مذكّرات داخلية، اطّلعت عليها الصحيفة، فإنّ التغطية تتحكّم بها تعليمات مباشرة من الإدارة العليا، بما في ذلك عدم نقل بيانات “حماس” أو عرض وجهات النظر الفلسطينية، في حين أنّ كلّ المداخلات من الجانب “الإسرائيلي” يتمّ بثّها من دون مراجعة، بما في ذلك إخضاع كلّ التقارير لموافقة مسبقة من مكتب المحطّة في القدس. القيود على الرواية البديلة تمارس بالقوّة، أيضاً، مثل إغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس أو مصادرة مُعدّاتٍ لفريق “وكالة أسوشييتد برس” الأميركية هناك. لا يزال الإعلام العالمي غير قادر على التغطية من داخل غزّة رغم اعتراضات خجولة من الجسم الصحافي على هذا الحظر.
وقد خرجت تحقيقات في وسائل إعلام رائدة، أخيراً، لتفكّك سرديات تناقلها الإعلام الغربي واسعاً، وأسهمت في التحريض وإعطاء مشروعية لحرب الإبادة “الإسرائيلية”. شكّل تحقيق وكالة أسوشيتد برس الأميركية، الذي دحض الرواية “الإسرائيلية” بشأن اغتصاب نساء ضحايا لهجمات 7 أكتوبر (2023)، محطّة مُهمّة. استندت الرواية إلى إفادات متطوّعين من فريق مجموعة زاكا سمح لهم الجيش “الإسرائيلي” بالوصول إلى الضحايا لدفن الجثث، تماشياً مع التقليد اليهودي، الذي يقضي بدفن الجثث مباشرة.
يقول التحقيق إنّ وصول الصحافة إلى المكان مباشرة بعد الهجوم جعلهم يعتمدون على إفادات هؤلاء المتطوّعين، وهم من المتشدّدين دينياً، باعتبارهم المصدر الوحيد الذي كان بإمكان الصحافيين الاعتماد عليه بسبب الدفن السريع للجثث، أي عدم إمكانية معاينة الجثث من جهة خبيرة. انتشرت الرواية بشأن عمليات اغتصاب للضحايا بعد أن أكّد هؤلاء المتطوّعون للصحافيين أنّهم عاينوا آثاراً للاغتصاب في الجثث التي دفنوها، ثمّ تراجع غالبية هؤلاء عن الشهادات التي قدّموها.
يشكّل تفنيد هذه الشهادات، التي اعتُمِدَت بشكل واسع في الخطاب الرسمي “الإسرائيلي” لتبرير قتل الفلسطينيين، علامةً فارقةً في عودة الإعلام، ولو بخجلٍ إلى التحقّق من فرضيات اعتبرها مسلّمات، استناداً إلى شهود من دون التحقّق منها، كرواية سَحْب أجنة من أرحام أمهاتهن أو قطع رؤوس أطفال رضّع. وكان تقرير سابق للأمم المتّحدة وجد أنّ هنالك “أرضية معقولة” للاعتقاد أنّ جرائم اغتصاب وقعت إبّان الهجوم، إلا أنّه في ظلّ غياب أدلّة الطبّ الشرعي، وإفادات الناجين والناجيات، من المستحيل تحديد حجم هذه الجرائم.
بدأ الإعلام ولو بخجل في تفكيك الرواية “الإسرائيلية”، التي سيطرت على التحليلات والوقائع لهجوم السابع من أكتوبر، وحرب الإبادة “الإسرائيلية” بعده، ولعلّ هذه المحاولات الخجولة تتسلّح بمذكّرة المُدّعي العام لـ“الجنائية الدولية”، ومشروعيتها القانونية ضدّ الرواية “الإسرائيلية” بشأن الدفاع المشروع عن النفس. داخل غرف التحرير مدّ وجزر، بين إعادة إنتاج هذه الرواية والاعتراض عليها، وأصوات قليلة تطرح السؤال بشأن معنى التوازن في تغطية نزاعات مُعقّدة، يفترض أن يكون للتاريخ السابق لاندلاع النزاع نفسه حيز مُهمّ من التغطية.

المصدر: فاطمة العيساوي/ “العربي الجديد”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى