مراجعة مفهوم الثورة والعنف الثوري..!
“المدارنت”..
في مرحلة تاريخية معينة تتراكم المظالم والشعور بالاضطهاد لدى شعب من الشعوب، وربما يزيد الطين بلة انتشار الفقر، والتفاوت الكبير في الثروة بين فئات الشعب وطبقاته ، والفساد المستشري في الدولة، واختلال القضاء، وفقدان الشعور بالأمن، كل ذلك يجتمع كله أو بعضه ليكون الأرضية الاجتماعية للثورة التي لا تعني سوى الانقلاب التام ليس على النظام السياسي ورموزه فقط، ولكن لتغيير أسس الدولة ذاتها، وإعادة بنائها وفق أسس جديدة أكثر عدالة وقدرة على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة التي أورثها النظام السابق.
فالثورة تتكون من جزأين رئيسيّين، التمرد على النظام السياسي الحاكم وإسقاطه أولا ثم بناء النظام الجديد البديل على أنقاضه وفق أسس أكثر عدلا، تقارب الأهداف الأخلاقية التي رسمت صورة الثورة في العقل الجمعي.
لكننا بحاجة بين مرحلة وأخرى لإعادة النظر في مفهوم الثورة العام، كما تم تقديمه فيما سبق، في ضوء التجربة التاريخية، وخصائص المرحلة، ومفاهيم العصر.
فالتجربة التاريخية لفكرة الثورة والتي ترافقت في القرن العشرين إلى حد كبير بالفكر اليساري، وما يحمله من التركيز على مسألة الصراع الطبقي، ودور الطبقة العاملة الثوري، وقلب المجتمع باتجاه محدد هو الاشتراكية، واستخدام العنف، واستبدال الديموقراطية بالديموقراطية الثورية أو الديموقراطية الشعبية أو الديموقراطية الاشتراكية، وكل تلك المصطلحات لم تترجم في الواقع سوى إلى نزع مفهوم الديموقراطية الأصلي لحساب ديموقراطية مزيفة.
وتشهد على ذلك كل التجارب الاشتراكية وشبه الاشتراكية في الإتحاد السوفييتي، وبلدان المعسكر الاشتراكي في أوروبا، كألمانيا الديموقراطية، التي لم يعد لها وجود اليوم، بينما كانت مدرسة لتعليم فنون التعذيب وانتزاع الاعترافات والتجسّس لجميع الانظمة الديكتاتورية الوحشية التي ترتدي رداء التقدمية والمسحة التحررية الاشتراكية.
إذن، فأول مراجعات مفهوم الثورة تبتدئ بإحلال الضرورات السياسية والتاريخية الاجتماعية الكامنة في القضاء على الاستبداد، وبناء دولة المواطنة الديموقراطية وتكريس مفاهيم الحريات العامة والخاصة وكرامة الانسان في الدولة وأجهزتها المختلفة ومحاربة الفساد، محل مفهوم الصراع الطبقي والثورة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا.
والمراجعة الثانية الأكثر أهمية هي في إعادة النظر بمفهوم العنف الثوري وعلاقته بالثورة، فهل ما يزال ذلك المفهوم صالحا في هذا العصر، وفي ظروف سوريا وما مرت به من إساءة استخدام هذا المفهوم، سواء من قبل النظام أو حتى بعض أطراف المعارضة المسلحة؟
وإذا ما كنا مضطرين لإفساح المجال أمام العنف الثوري في مواجهة عنف الاستبداد، فما هي حدود وضوابط ذلك العنف، باعتبار أن اللجوء لمفهوم العنف الثوري ربما يصبح ملاذا نظريا لقمع المجتمع من قبل فئات ايديولوجية تركب الموجة الثورية وأداة لتفريغ الثورة من المفاهيم الديموقراطية، والقضاء على أهم مبادئها الأصلية في الحرية والكرامة.
استغلال المفهوم الثوري للقفز نحو العنف ”الثوري” والذي لا يحده حدود ليس مجرد انحراف في سلوك الثورة لكنه المدخل الأهم لقلب العملية الثورية كلها نحو الديكتاتورية، والتحكم الفئوي أو الحزبي أو الطائفي والخروج نهائيا عن مبادئ الثورة وأهدافها الأصلية التي قام الشعب من أجلها.
من أجل ذلك، لا بد من تخليص مفهوم الثورة من تعلق مفهوم العنف الثوري الغامض عليه، كما تتعلق الكائنات الفطرية على الكائنات الحية، ووضع الضوابط الصارمة لاستخدام العنف في الثورة وتقييده بشروط محددة بوضوح.
فالأصل في الثورة بمفهومها العصري بما في ذلك الثورة السورية ليس العنف بل حركة الجماهير الثورية وطلائعها المثقفة الثورية، وهذه الحركة تعبر عن نفسها بكل الأشكال الديموقراطية السلمية ضمن أطر اجتماعية – سياسية منظمة يقودها وعي ثوري يحدد طبيعة الثورة وهدفها، قادر على تحليل الواقع الملموس ووضع الاستراتيجية والتكتيك المناسبين.
مراجعة مفهوم الثورة ونفي كل ما علق به سابقا من آثار التجارب التاريخية التي أثبتت فشلها، ومن ملامح لا تتفق مع الضرورات والحاجات الجوهرية للثورة السورية في خصائصها الاجتماعية والسياسية وتحديد طابع تلك الثورة الوطني الديموقراطي ووسائلها المنسجمة مع طبيعتها التاريخية أمر في غاية الأهمية ليس فقط لتحصينها من الاختطاف والانحراف ولكن أيضا لإنارة الطريق أمام الحركة الجماهيرية وطلائعها الثورية للسير نحو أهدافها النهائية بأفضل الطرق وأقل الخسائر.
فالثورة في النهاية ليست غاية بذاتها وليست صنما أو ايقونة لكنها الوسيلة التي وجد الشعب أنه لابد منها للتغيير بعد أن سدت بوجهه كل الطرق الإصلاحية الأخرى.