مساحة بصرية للذاكرة والهوية.. تحكي الحرف والحنين في معرض الكتاب
“المدارنت”
في مساحة خاصة متسعة من “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” – في نسخته السادسة والستين – وبين أجنحة الناشرين ورفوف الكتب المكتظة، وُلد فضاء فني جديد.
مساحة بصرية تُعرض فيها صور فنية تكامل مع أجواء المعرض، تمنح الزائر استراحة من الحروف، وتدعوه إلى تأمل الصورة كلغة أخرى من لغات التعبير الثقافي، لكن، هل تكفي الصورة لتروي ما تعجز عنه الكلمة؟ وهل يمكن للمعارض الفنية أن تتحوّل إلى جزء دائم من مشهدنا الثقافي، لا مجرد إضافة جانبية؟
الخط العربي، الألوان، الوجوه، الملصقات، وصور تعبّر عن القضية الفلسطينية، كلها هنا، تتحدث بلغة الذاكرة والهوية، وتفتح بابًا لفن يعيد صياغة القصة، من الحرف إلى الصورة.
رؤساء ومفكرين وأدباء
زاوية خاصة، ضمّت مجموعة صور أرشيفية لرؤساء الحكومات اللبنانية، خلال مشاركتهم في افتتاح المعرض عبر العقود، بدءًا من المفكر قسطنطين زريق والأديب ميخائيل نعيمة والرئيس الشهيد رشيد كرامي عام 1965، مرورًا بالرئيس الشهيد رفيق الحريري خلال توليه موقع رئاسة الحكومة، وصولا الى الرئيس نجيب ميقاتي عام 2023، في مشاهد وثّقت لحظات رسمية وأخرى شعبية من تاريخ المعرض.
“أتيليه الحرف”
في إحدى الزوايا، تتدلّى لوحات الفنان والرسام كميل حوّا، الذي جمع بين الحرف العربي والرسم التجريدي بأسلوبه الخاص، في هذه الزوايا، لا تُستخدم الحروف كأداة كتابة فحسب، بل تتحوّل إلى مكوّنات تشكيلية تنبض بالجمال والحركة، وتعبّر عن هوية وحسّ بصري فريد.
في بعض أعماله، تتحوّل الكلمات إلى رسومات مجسّمة، تكسر الشكل التقليدي للكتابة وتدعونا إلى قراءتها بعين جديدة.
وقف أحد الزوار طويلاً أمام لوحة تمثّل وجهًا مرسومًا بخط عربيّ، وقال: “ما بَعرف إذا عم بقرا أو عم بتأمّل.. يمكن عم بعمل اتنين سوا”.
كما تولّى حوّا، تصميم “بروشور” المعرض بأسلوب إبداعي، حول فيه الحروف إلى مُجسّمات فنية تختصر الفكرة البصرية للمعرض كله.
أرشيف من ذهب
قدّم الفنان عبودي أبو جودة، معرضًا خاصًا بعنوان: “مئة سنة من السينما اللبنانية من خلال الملصق”، يضمّ نحو 70 ملصقًا نادرًا لأفلام لبنانية، تعود إلى الفترة ما بين عام 1929 ويومنا هذا، كأرشيف من ذهب.
قال أبو جودة: “الملصقات ليست دعاية فقط، إنما هي وثائق فنية تعكس روح كلّ مرحلة، الناس يلتقطون الصور الى جانبها، عم يتصوروا حدّا، كأنهم يجدون شيئًا كان ضائعًأ”.
أضاف: “منذ سبع سنوات بدأنا في إعداد كتاب عن السينما اللبنانية، وهذه الملصقات كانت جزءًا أساسيًا منه، واليوم، نعرضها أمام الناس، من أجل أن يتعرّفوا على إرث بصري غني، ربما لم يكونوا يعرفونه”.
من الجامعة إلى المعرض
في ركن خاص، عرض طلاب من الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، مجموعة أعمال فنية تتنوع بين التصوير “الفوتوغرافي”، الرسم، والتصميم “الغرافيكي”، تعكس قضايا اجتماعية وسياسية من منظور شبابي معاصر.
إحدى اللوحات، مثلًا، عكست مشهد شارع لبناني تقليدي، وتحتها عبارة: “الليرة بألف خير” – في نقد مؤثّر وساخر من الواقع الاقتصادي والمعيشي.
فلسطين في قلب المعرض
الفنانون العرب، لم يغيبوا عن قضاياهم المركزية، إذ خُصّص ركن مميز للقضية الفلسطينية من خلال رسم “كاريكاتيري”، وأعمال فنية واقعية ورقمية بأساليب تعبيرية متنوعة.
وجوه أطفال، بيوت مهدّمة، صواريخ، عيون تنظر إلى العدسة بحزن وكرامة، وفي أحد الأعمال، كتبت طفلة: “أنا ما بدّي خيمة، أنا بدّي أرجع لبيتي وألعابي ومدرستي”.
هذا القسم، بدا وكأنه يهمس للزائر: لا تقرأ فقط، بل تذكّر.. ولا تمرّ مرور الكرام!”.
طرابلس حاضرة
كما خُصّصت مساحة لعرض صور من مدينة طرابلس، التقطها المصوّر اللبناني منذر حمزة، سلّطت الضوء على تراث المدينة وثقافتها الشعبية العريقة، محاولةً إبراز أهميتها في المشهد الثقافي اللبناني الحديث.
الصورة ككتاب.. والتأمل كقراءة
المعرض الفني في ختام معرض الكتاب، لم يكن مجرد زينة بصرية، بل كان استعادة لذاكرة تُنسى، وصياغة لهوية تتشكّل على حدود الجمال والمعاناة.
دمج الصور ضمن معرض للكتاب، بدا خيارًا ليس مألوفًا، لكنه في الحقيقة ضرورة، خصوصًا في زمن تتغيّر فيه وسائل التعبير والتوثيق.
كما قال أحد الزوار: “الكلمة بتقنع، بَس الصورة بتحرّك”.
ما بعد المعرض: إلى أين؟
“معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” الذي ينظمه “النادي الثقافي العربي”، لم يكن هذا العام مجرّد سوق كتب، بل مساحة حوار وتفاعل مع الفن كوسيلة لتوثيق الذاكرة وطرح الأسئلة الكبرى.
فهل تتحوّل هذه التجربة من زيارة عابرة إلى علاقة دائمة مع الفن البصري؟
وهل نرى في السنوات المقبلة، توسّعًا لهذا النوع من العروض، ليصبح جزءًا أصيلًا من المشهد الثقافي اللبناني؟
الإجابة قد لا تكون في الكلمات فقط، بل في الصور التي بقيت في ذاكرة كلّ من زار هذا الركن، وخرج منه متأملًا.
