مقالات

«مشيخة العقل» في سوريا.. علمانية من قلب العمامة!

الشيخ حكمت الهَجَري

“المدارنت”..
ضمن مقطع “فيديو” مصور يظهر خوري مدينة شهبا الأب طوني البطرس، متوجهاً للشيخ حكمت الهَجَري بقوله: «نحن مثل كل أبناء هذا الجبل العريق، نؤمن بأن الله عز وجل، أعطى سراً مقدساً لأبناء هذه العائلة المباركة، لكي تكون على رأس هرم مشيخة العقل التي نقدرها».
ثم يستطرد بدعم مواقف الهَجَري، ويختم بمقولة بطرس البستاني النهضوية، التي تبنتها بيانات الأمير فيصل بعد دخوله دمشق، وسلطان الأطرش إثر الثورة ضد الانتداب الفرنسي «الدين لله والوطن للجميع».

يؤكد كثيرون من زوار الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في حديثهم على سرّ مشايخ العائلة ويقسمون به، ويبدو هذا مما يعطيه حيثية اجتماعية ودينية صلبة ومتقدمةً على غيره، دفعته مثلاً لدعم الحراك المناهض للنظام، ثم رفض إجراءات السلطة والارتياب منها. لذا بات التساؤل عن سرّ وتاريخ العائلة ضرورياً، لمعرفة موقع مشيخة العقل الملتبس بين الديني والزمني، ثم لجلاء إمكانية انخراط رجال الدين في السياسة، رغم قناعاتهم الدينية، والمناداة الصريحة بالعلمانية.
برز اسم عائلة الهَجَري مع وصول الشيخ إبراهيم (1804/1840) إلى قرية قنوات في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، رفقة والده الشيخ محمود سلمان زين الدين، الذي هاجر من بلدة خريبة في الشوف الأعلى، إلى بلدة أشرفية صحنايا في غوطة دمشق الغربية، قبل استقراره النهائي في قنوات، فاكتسبت العائلة لقبها نسبةً إلى هذه «الهجرة».
اشتهر الشيخ إبراهيم بنبوغه وسعة اطلاعه الديني وسداد رأيه، ما أعطاه مكانة استثنائية رغم حياته القصيرة. كذلك دفعت الأحداث السياسية على مسرح بلاد الشام مكانة العائلة، فأمام حملة إبراهيم باشا المصري، واجهت الجماعة الدرزية وسكان الجبل من مسيحيين وبدو خطر الفناء، وكانت لقيادة الشيخ إبراهيم دوراً في الحفاظ على بقائهم، ترفعه الروايات الشعبية غير المدونة لمرتبة خارقة، ولابنه الشيخ حسين مذكرات عن تلك الحملة حققها المؤرخ فندي أبو فخر بعنوان «حروب اللجاة 1837/ 1838».
علاوة على المذكور، عرف جبل الدروز خلال تلك المرحلة تراجع سلطة آل الحمدان وحلفائها، وبروز عائلات جديدة طامحة للنفوذ، ورغم أن والد الشيخ إبراهيم كان كاتباً لدى الأسرة الحمدانية، لكنها لم تستطع استمالة الابن، ما عزّزَ مصداقيته لدى العامة، فاعتبروه منحازاً لجانبهم ضد المتنفذين، وتربط رواياتهم الشعبية بين «تكدّر خاطره» وخسارة آل الحمدان موقعهم أمام آل الأطرش. رغم ذلك لن تتحالف الأسرة الهجرية مع آل الأطرش الصاعدين رسمياً منذ عام 1865، بل اكتفت بمكانتها الدينية المحصنة بعيداً عن السلطة، وتقاربٍ أوسع مع آل عامر أصحاب النفوذ في الريف الشمالي، وآل هنيدي في الريف الغربي.
تحول الشيخ إبراهيم لمرجعية دينية بإجماع الناس، لكن لقب الرئيس الروحي لم يُقرن رسمياً باسم العائلة حتى عام 1868/1869 كما ورد في سالنامة الدولة العثمانية ضمن سجل قائمقامية حوران، حيث ذُكر اللقب بجانب اسم ابنه الشيخ حسين الهجري، الذي ورث المكانة الدينية والاجتماعية، لما عرف عن العائلة من ورع، وتميّزَ بدور ريادي، إذ كان أول من استقدم معلّماً من خارج الجبل لتعليم القراءة والكتابة.
بعد بضعة أعوام ظهر في الوثائق العثمانية اسم الشيخ قسّام الحنّاوي من قرية سهوة بلاطة، بصفة شيخ عقل بعد الشيخ الهجري، ووفقاً للمؤرخة بريجيبت شيبلر في كتابها «انتفاضات جبل الدروز من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال» اختار آل الأطرش الذين وطدوا سلطتهم في الريف الجنوبي من الجبل، نسيبهم الحناوي مرجعية دينية، وهو الفارس والشاعر ذائع الصيت، وأخ زوجة إسماعيل الأطرش مؤسس السلالة الطرشانية، وخال ابنه شبْلي الذي تصفه شيبلر «بالأسطوري»، لحنكته وأشعاره وفروسيته، وهو الجد الفعلي لفرع الأسرة الطرشانية في بلدة عِرَى.
أما الشيخ الثالث، محمد جربوع، برز اسمه بعد انتفاضة العامية 1888/1890، حينها تقارب فرع الأسرة الطرشانية ـ من أبناء إسماعيل وأخوالهم آل الحجلي ـ المستقر في السويداء مع آل جربوع النافذين فيها، بعد صدام سابق أدى لترحيل بعض وجهاء آل جربوع إلى قرية رْسَاس، ثم تمت المصالحة، وأعطي الشيخ جربوع مقام عين الزمان ليرممه، وتحول مركزاً رئيسياً للطائفة مع صعود أهمية السويداء إدارياً وسكانياً.
ضمن هذا السياق، ثبتت تسمية مشايخ العقل في العائلات الثلاث، ويتضح التباس الديني بالسياسي والإداري في موقع مشيخة العقل، إذ يشغله رجل دين، دخلت على مهامه الروحية شؤون دنيوية تتعلق بالتشريع والقضاء، وحل النزاعات، وصولاً للتمثيل السياسي. رغم ذلك تبقى المرجعية الدينية العليا لجميع المشايخ بمن فيهم شيوخ العقل الثلاثة، هي الهيئة الروحية العليا، وهؤلاء مجموعة من المشايخ المراجع مقرهم لبنان، يرتدون العمامة المُكوّرة، والعباءة المقلمة بالأبيض والأسود، في أعلى رتبة دينية عند الدروز. وكانت الدلالة واضحة عند زيارة وفد مشايخ الهيئة الروحية العليا دار الشيخ الهَجَري قبل غيره، بعد سقوط النظام.
كما تجدر الإشارة إلى أن الدولة السورية بعد الاستقلال أقرّت العُرف بأن المشيخة الأولى للأسرة الهَجَرية، واستقرَّ التقليد في الكتب والمخاطبات الرسمية.

تاريخياً حمَلَ أعباء العمل السياسي وجهاء العائلات المتنفذة، لكن هذا الدور أصابته تحولات دولة ما بعد الاستقلال، نتيجة تفتت الملكية الزراعية، وبروز وجوه جديدة قدمتها الأحزاب، والجيش، والتعليم، والاغتراب، مع ذلك فالمال لا يعني ضمان الوجاهة والمركز الاجتماعي، في مجتمع ريفي محافظ، ما زال يُعلي قيماً معنوية على الثروة.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، ومع تراجع دور الأحزاب والنقابات والوجهاء، ملأ رجال الدين الفراغ، ولعبوا دور الوسيط بين السلطة وجماعاتهم، وليس الدروز هنا استثناء، هكذا حفظت مشيخة العقل جزءاً من مكانتها مع تراجع باقي القوى السياسية والاجتماعية.
وتحضر هنا صورة شيخ العقل الراحل أحمد الهجري (1954 ـ 2012) عندما طالب المحتشدين المتوجهين من شهبا إلى السويداء بالعودة إلى منازلهم، إبان تدخل الجيش بعنف إثر الصدامات بين البدو والدروز خريف عام 2000، وتمكن من تهدئة الغليان الشعبي وسط عجز القيادات الرسمية والاجتماعية الأخرى. ما جعله تحت الضوء من قبل المجتمع والسلطة. لاحقاً رفض الشيخ أحمد طلب النظام إصدار بيان بالتبرؤ من الملازم أول خلدون زين الدين، أول الضباط الدروز المنشقين عن الجيش بعد 2011.
عام 2016 بادر الشيخ يوسف جربوع مواليد 1970 إلى تأسيس دار رسمية للطائفة، حيث قرر المشايخ الثلاثة الانتقال إلى مقر موحد لاستقبال المراجعين، واختير مقام عين الزمان في السويداء، الذي شغله تاريخياً آل جربوع، لكن الشيخ الهجري انسحب لاحقاً، وعاد لتوقيع بياناته باسم «الرئاسة الروحية»، ليستعيد لقباً متوارثاً في عائلته فقط، تعكس الحادثة حساسية التوازنات داخل مجتمع تقليدي يستشعر التهديد، وتُؤخذ فيه رمزية المكان والمكانة بعين الاعتبار.
بعد تجدد الحراك المناهض للنظام صيف 2023 دعمه الشيخ حكمت الهجري مواليد 1965، بخطاب متقدم طالب بالديمقراطية والعلمانية، مانحاً المحتجين غطاء اجتماعياً وسياسياً، ساهم في استمرارهم. بينما أفرزت الساحة عشرات الكيانات والتجمعات، لم تبرز منها قيادة وازنة سياسياً، تطرح بوضوح أن جزءاً من مأزق الدولة السورية، يكمن في مركزيتها وكيانها الأحادي المتستر بالقومية العربية والدين الرسمي، بل بقي الحراك أسير خطابات الوحدة الوطنية الإنشائية، من دون برنامج سياسي ومطلبي واضح وجامع، يدرك أن الإطار الوطني انفجر منذ 2011، وتبعه سياق من العنف الأهلي المدمر، يتطلب إعادة تعريف الدولة وشكلها والعلاقة معها.
إثر تهاوي النظام السريع، لم ينفتح الأفق على الحرية، بل برز انقسام جديد بين مشروع دولة شمولية دينية مركزية تقودها قوى الإسلام السياسي، وملحقاتها الهجينة من تيار ليبرالي محافظ ويساريين وقوميين سابقين، تصدروا المعارضة منذ مطلع الألفية، وأعادوا إنتاج أنفسهم تحت مسميات فضفاضة كالمدنية والتكنوقراط، وبين قوى تطالب بالاتحادية والعلمانية، وهؤلاء معارضون ومحايدون سابقون من مرجعيات سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة، إضافة إلى الأقليات الدينية والإثنية، المهددة وجودياً نتيجة الممارسات القائمة.
في هذا السياق، لا تتناقض المرجعية الدينية مع مطالب العلمانية، بل تحتاجها ولو مضطرة لبناء نظام الدولة دستورياً، وحماية التعدد وحرية الرأي والمعتقد من انحياز السلطات، فلا يمكن الدفاع عن الحريات دون علمانية واضحة، رغم محاولات تمييع المفهوم وشيطنته وسحب تداوله، كما سبق وحصل مع الديمقراطية، التي باتت نخبٌ سوريةٌ ادعت يوماً أنها ناضلت وسجنت لأجلها تتحاشى استخدامها، في تنازل للسلطة عن التعبير، يتبعه تنازل عن مضمونه، والتسليم بموقع ذيلي في الفضاء العام يقبل بالتجهيل، ويهمس مطالباً الخراب بإصلاح ذاته، بيد أن المطلوب اليوم ليس ترميم الدولة المركزية وخرائبها، بل إعادة تخيل الدولة وتأسيسها مجدداً، ومن لا يملك الجرأة على هذا، لن يحمي الناس ويبني مستقبلهم.

عمر الأسعد/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى