معنى أن تكون وطنيًا!
“المدارنت”..
السؤال حول الوطنية السورية، ليس ساذجًا وبسيطًا، وليس خارج الزمان والمكان، بل هو سؤال واقعي وضروري في مرحلة معقدة وخطيرة تمر فيها سورية وثورتها، وأهلها ومستقبلها، ومن الضرورة بمكان الحديث بجرأة وشجاعة، حول الوطن، الثورة، الحاضر والمستقبل، ومن نحن ومن نكون.
معنى أن تكون وطنيًا، أن تُعرّف نفسك كسوري، في فضاءات انتماءات وهويات قاتلة ومتصارعة، وأن يكون موقفك محكوم بدلالات المشروع الوطني، الذي صاغته قوى اجتماعية وسياسية ونخب على مدى سنوات طويلة في مواجهة النظام، وأن لا تحمل إلا راية الوطن وعلمه، وترفض وتناهض كل الأعلام المشبوهة التي شوّهت الثورة وحرفتها، وفتتت من عضد المجتمع ومكوناته الوطنية كمفهوم أخلاقي، نقيض كل توحش وفعل غير إنساني، يُبرّر الجريمة والقتل والتعذيب والاعتداء على الحريات، أو يقف في صفها، ولا يصح أن يكون وطينًا من ينحاز أو يُدافع عن من قتل أكثر من مليون إنسان وشرد أكثر من عشرة ملايين، واستقدم كل المهووسين بصراعات التاريخ المضلّلة ليرتكبوا الفظائع.
ووفق ذات المفهوم، ليس وطنيًا من يُبرر للقادمين من خارج الحدود “جهادهم” على “الأرض المباركة”، أو دفاعهم عن المراقد والمقدسات الدينية المزعومة، وهم يتّخذون من تلك الحجج ذرائعًا لمشاريعهم السياسية الكبرى، ومصالح لقوى إقليمية وعالمية، وليس وطنيًا من يقبل باحتلالات وطنه وأرضه، من طغاة أو غلاة أو مستعمرين، وأن يُقاومهم ما استطاع، ولا تتوه الرؤى لاستجداء الحلول، من “أعداء تاريخيين” تحت مزاعم شتى، وخارج أي إجماع وطني.
وإذا كان مِن اقترانٍ لمفهوم الوطنية بالحرية، تُصبح أي مصادرة لحرية الأفراد، فعلًا غير وطني، أيًا تكن السلطة التي يُستنَد إليها، أو الحجة التي يُسوّقها، أو الفتاوى التي يُصدرها من يقوم بذلك.
أن تكون وطنيًا، يعني أن تكون مصالح الوطن العليا مُقدّمة على مصالح الفرد والجماعة، الحزب والطائفة والقبيلة، على كل المستويات، وأن تُعلى من هذه الرابطة على ما دونها من روابط، وإن كانت لا تُلغيها، صحيح أن الهوية السورية قيد التشكّل، وهناك تداخل كبير بين مفهوم الدولة والأمة، إلا أنه في تعقيدات اليوم وصراعاته المفتوحة، يصبح أي حديث خارج هذا السياق إمعانًا في تمزيق ما تبقى من روابط بين أبناء الوطن ومكوناته، في وقت تقتضي الوطنية الحرص الشديد على تعزيز تلك الأواصر، ودعوة كل الطيف الوطني لكلمة سواء دون فرض أو إكراه.
معنى أن تكون وطنيًا، بالضرورة، أن لا تكون طائفيًا أو تنشر ثقافة الكراهية والتحريض مذهبيًا، وأن لا تعمل على استيلاد العنف والعنف المضاد، دون هدف واضح ورؤية جلية، وليس أن تكتب “بوستًا” في فضاء مفتوح، أو تُردّد شعارًا أو تُغنّي قصيدة جميلة، أو تزأر على الفضائيات “لحشد الجماهير” وراءك، بقدر ما تكون عقلانيًا وتملك خطابًا وموقفًا واضحين ومتّزنين، يفصلان بين الثابت والمتحول، وتتعاطى السياسة كعلم ومعرفة لها قوانينها، وتقرأ العالم واتجاهاته كما هو، وليس كما تريد أو ترغب.
معنى أن تكون وطنيًا، أن تُحافظ على استقلالية قرارك، وعدم ارتهان إرادتك، وأن تبقى بعيدًا عن أجندات الدول واستخباراتها، التي تغلغلت في مفاصل كل شيء، وأصبحت متحكمة بقرارات الهيئات السياسية والمجموعات العسكرية، وهي عملية تُشبه القبض على الجمر، في أرض ملتهبة ووطن يحترق.
ليس وطنيًا، إلا ذاك الحريص على سوريا دولة حرة لكل أهلها، مؤمنًا بحق شعبها في المساواة والعدل، وبدولة قانون ومواطنة، وفق مفاهيم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وأي خروج عن هذه المفاهيم والمعاني هو باطل، وقد آن الأوان للوطنية السورية أن تكون هي العليا، بكل معانيها وقيمها الجامعة.
دون شك فإن الوطنية هي جعل المصلحة العليا لسوريا حرة وكريمة فوق كل الإعتبارات وبمقدمتها ، أيضاً دون التغاضي عن انتماءاتها العربية والقومية كبعد استراتيجي .