مـــات أبـــو روبـيـــــر..!
خاص “المدارنت”..
يُعرّف الرثاء لغةً بأنّه صوتُ البكاء مع الكلام على الميت، أو صوت الكلام أثناء البكاء على الميت، هذا بحسب المراجع اللغوية. ويُعرّف اصطلاحاً بأنه ذِكرِ الميت وذِكرِ محاسنه ومناقبه وخصاله الحميدة مثل: الكرم، والعفّة، والشجاعة، ووصف الحال بعد فقدانه، وما يَحمِلُه الراثي من مشاعرٍ وحزنٍ على الفقيد.
فكلما زادت الصلة مع الشخص الميت زادت قوة المشاعر وصدقها، فهذا المعيار (أي الصدق) هو الذي يرفع أسهم ردود الفعل الحزينة من الناس حين يقرأوا أو يسمعوا أي رثاء لفقيدٍ قريب. وما أقوله، ينفع بشدّة على المستوى العاطفي، فالحزن هو أحد المشاعر، حيثُ إنّ الرثاء هو ترجمة محكيّة للحزن.
سأحدّثكم عن “طوني”، أبو روبير، الرجل الثمانيني، الذي رحل أوّل من أمس عن هذه الدنيا. ولست بصدد رثائه أبدًا. فانسجامًا مع معنى الرثاء، لا يمكنك أن تتحدّث فقط عن صفات طوني، وخصائله الحميدة و و و ..
بالطبع هذه أركان الرثاء وموجودة عند أبو روبير. ففي جولة صغيرة على متن “الفايسبوك”، تكتشف كمّية الأشخاص الذي “شيّروا” صورته، لعرفت حجم مُحبّينه. وهذه لغة سائدة الآن، فوسيلة التواصل الاجتماعي (الفايسبوك) اختصرت التعبير الإنساني عن المشاعر.
فالتعبير عن الحزن لرحيل طوني، يقتصر عند البعض على “تشيير” صورته على صفحته الخاصّة. نعم قد تُعلن بوضوح موت أبو روبير، ولكن لن تشرح الصورة قصّة حياته. وبالطبع لستُ مُخوّلاً أنا لأحكي عن حياته. لكنّ معرفتي بسيطة به. فخلال لقائي الدائم الأسبوعي تقريبًا ببعض الأصدقاء، وبما أنّي وأصدقائي، مُتمسّكين بالأصالة، ملجأنا الوحيد كان مطعم طوني الصغير، الذي لا يتّسع لأكثر من عشرة أشخاص. حيث تجتمع القيم الإنسانية في هذه البقعة الصغيرة التي تختصر الوطن الحقيقي والمواطنة.
نعم فلو دلّ اسم طوني لبنانيًّا على طائفة محدّدة، فلا يعني هذا أن ما يفعله في وطنه الصغير -المطعم- يعكس سلوك فئة أو طائفة معادية لفئة أخرى! فحين علمت خبر وفاته، اتّصلتُ فورًا بصديقي الذي كان يرافقني في “جلسة أبو روبير” لأتأكّد من صحّة الخبر، فما كان من صديقي إلاّ أن بادرني: “أبو روبير.. الكوكب كلّه بيعرفه!”.
هذا التعبير من صديقي، المحامي المُتّسع المعرفة والاطلاع على واقع مدينته الجميلة صور، التي تعكس وجه لبنان، ولست في معرض رصف كلام إنشائي جميل، بل أتحدّث عن أبو روبير، الذي لم يبذل جهدًا مُنمّقًا “لتسييس” صورة مدينة أحرقت نفسها حين حاول “أرتحششتا” احتلالها في التاريخ القديم. الكرامة كانت في تقدير واحترام أصالة المدينة وعراقتها. لستُ فينيقيّ الهوى، ولكن أحترم لدرجة القداسة البحّار طوني الذي يُقدّم في مطعمه طبقًا من السمك المقلي أو المشوي، مع كأس العرق البلدي، حيث لا تُحرِّم أي أيديولوجيا تقاليد شعبية تحترم الإنسان بأخلاقيّته مهما اختلفت مشاربه.
التقت عند طوني جنسيات عديدة، وجُلّها من العاملين في المجال الاجتماعي الإنساني. أبو روبير، مواطن رفع شأن السياحة في لبنان، أكثر من أي خطّة وزاريّة تهتمّ بالسياحة، فالسمكة الأصيلة مع الكأس التقليدي، تطال الفقراء الذين يتحسّرون لمنظر الأثرياء، وهم يلتقطون صورًا على سفح جبال الثلج. الساحل والجبل وبقاع لبنان، تجتمع في مطعم طوني الصغير لتنعيه بصوت الشيخ إمام:
..”مات المناضل المثال يا مية خسارة عالرجال لا طنطنة ولا دندنة ولا إعلانات واستعلامات..
طوني مات!”.